أنشئ حسابًا أو سجّل الدخول للانضمام إلى مجتمعك المهني.
.باب: سجود السهو:
قال الشافعي رحمه الله: "ومن شك في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً... إلى آخره".
965- إذا شك في الصلاة، فلم يدر أنه صلى ثلاث ركعات، أم صلى أربعاً، وكان رفع رأسه من السجدة الثانية، وتردد بين أن يجلس ويتشهد، وبين أن يقوم إلى الركعة الرابعة، فمذهب الشافعي أنه يأخذ بالأقل المستيقن ويبني عليه، ويقوم إلى الركعة التي شك فيها، ولا يأخذ بالظن، ولا يجتهد.
ثم الركعة التي جاء بها عنده مترددة بين أن تكون رابعة كما يقتضيه ترتيب الصلاة، وبين أن تكون خامسة زائدة، وقد تمت الركعات كلّها.
ثم يسجد للسهو في آخر الصلاة، كما سنصفه، ولا مجال للاجتهاد والتحري أصلاً؛ إذ التعويل في الاجتهاد على التعلق بالأمارات والعلامات المغلبة على الظن، وليس فيما شك عليه علامة يستشهد بها.
وقال أبو حنيفة: إن كان يتكرر ذلك منه، فيجتهد ويبني على ما يغلب على ظنه، وإن كان يندر ذلك منه، فيقضي الصلاة ويستأنفها.
ومعتمدنا في المذهب ما رواه عبد الرحمن بنُ عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شك أحدكم، فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين، فَلْيَبْنِ على واحدة، وإن لم يدر ثنتين صلّى أم ثلاثاً، فليبن على ثنتين، وإن لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً، فليبن على ثلاث، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم».
والضابط المعنوي للمذهب أن الركعة التي جاء بها إن كانت رابعةً، فذاك، وإن كانت زائدةً، فالغلطُ بالزيادة لا يفسد الصلاة، والغلط بترك ركعة يفسد الصلاة.
ولا علامة يستند إليها الاجتهاد، فتعين من مجموع ذلك وجوبُ البناء على المستيقن.
966- ثم من غوامض المذهب في التعليل ما نشير إليه، وسيأتي تفصيله في أثناء الباب أن من شك، فلم يدر أتكلمَ ساهياً أم لا؟ فالأصل أنه لم يتكلم، ثم لا يسجد للسهو؛ فإنه لم يستيقن السهو، وإذا شك في عدد الركعات، فيبني على المستيقن، فإنه يجوِّز أن الركعة الأخيرة هي الركعة الجارية على الترتيب المقتضى، فهو غير مستيقن بصدور السهو منه، فأمره بسجود السهو خارج عن القاعدة التي أشرنا إليها من أن السهو إذا لم يكن معلوماً، فلا سجود.
والذي يُعضّد الإشكال في ذلك النظرُ إلى حالة العَمْد، فإن من أمرناه بالسجود للسهو، وتَرَك السجود عمداً، لم تبطل صلاته، ولو سجد حيث ننهاه عن السجود عمداً، بطلت صلاته. ولمكان هذا الإشكال استثنى العراقيون هذه المسألة، وقالوا: من شك، فلم يدر أَأتَى بشيء من المنهيات، فالأصل أنه لم يأت به، ولا نأمره بسجود السهو إلا في مسألة واحدة، وهي إذا شك، فلم يدر أثلاثاً صلى، أم أربعاً؛ فإنه يبني على اليقين ويسجد، فهذا هو التنبيه على وجه الإشكال.
967- وقد اختلف علماؤنا في تنزيل ذلك، فقال شيخي، وطائفة من أئمة المذهب: إن متعلق السجود الخبر، ولا اتجاه له في المعنى أصلاً، وقال الشيخ أبو علي: المقتضي لسجود السهو، أن الركعة التي أتى بها آخراً إن كانت زائدةً، فهي سهو، فيقتضي السجود، وإن كانت رابعةً أتى بها المصلي ولا يدري أصليَّة هي أم زائدة، فتضعف النية فيها، فاقتضى ذلك نقصاناً مجبوراً بسجود.
وينشأ من التردد في التعليل مسألة مذهبية، وهي أنه لو صلى هذه الركعة، ثم استيقن في آخر الصلاة أنه ما زاد شيئاًً، وإنما أتى بالركعات الأربع، فقد قال الشيخ أبو علي رحمه الله: إنه يسجد وإن زال الشك؛ لأن تلك الركعة جرت وضعْفُ النية مقارن لها، فلئن زال الشك آخراً، فذلك التردد، قد تحقق مقارناً لما مضى، وكان شيخي يقطع في هذه الصورة بأنه لا يسجد للسهو؛ فإنه كان لا يعتمد معنىً في الأمر بالسجود، وإنما كان التعويل على الحديث، وظاهر الحديث في دوام الشك والتردد.
والذي ذكره الشيخ أبو علي منقوض عليه، بما إذا لم يدر الرجل أقضى فائتة كانت عليه أم لا، فأمرناه بقضائها، فإنه يقضيها ولا يسجد للسهو، وإن كان على التردد في أن الصلاة مفروضة عليه أم لا، من أول الصلاة إلى آخرها.
ثم الشيخ أبو علي إنما يأمر بالسجود إذا انقضى ركن مع التردد، فأما إذا خطر الشك، ولم يدم وزال، ولم ينقض معه ركن تام، فلا أثر له أصلاً.
وقد قدمت تفصيل القول في الركن التام ومقارنة الشك إياه في فصول النية في أول باب صفة الصلاة.
فصل:
قال: "إذا فرغ من صلاته بعد التشهد، سجد سجدتين للسهو، قبل السلام... إلى آخره".
968- مقصود هذا الفصل بيان محل سجود السهو، فالظاهر المشهور من المذهب أنه يسجد قبل السلام إذا فرغ من التشهد والصلاة وما تخيره من الدعاء، فيسجد سجدتين، ثم يسلم.
وأبو حنيفة يقول: يسلم ويسجد بعد السلام.
وقال مالك: إن كان السهو نقصاناً من الصلاة، فإنه يسجد قبل السلام جَبراً لذلك النقصان، وإن كان السهو زيادةً في الصلاة، فإنه يسجد بعد السلام، وهذا قول الشافعي في القديم، ثم لا شك أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالسجود قبل السلام، وصح أنه قال: "ويسجد سجدتين بعد السلام"، ولا شك في صحة الروايتين، ثم إنه كان مالك حمل إحدى الروايتين على ما إذا كان السهو نقصاناً في الصلاة، وحمل الثانية. على ما إذا كان زيادة في الصلاة.
وقال الشافعي: كان مالك لا يدري الناسخ من المنسوخ، وكان آخر ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام، وروى عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام وبعد السلام، وكان آخر الأمرين أنه سجد قبل السلام، فهذا كلام الشافعي.
وقد جرى للشافعي تردد في بعض المواضع، لما رأى الأخبار صحيحة في التقديم والتأخير تُشير إلى جواز الأمرين جميعاًً، وهذا يعضده أمر في الأصول، وهو أن فِعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتضمن الإيجاب عند المحققين، ولكنه يتضمن الجواز والإجزاء، فلئن صح ما ذكره الزهري أنه سجد قبل السلام آخراً، فهذا لا يُعيِّن ذلك، ولا ينفي جواز ما تقدم.
969- فإذا لاح مأخذ الكلام، فنذكر ما تحصل من المذهب: فذكر ذاكرون ثلاثة أقوال: أحدها: وهو الظاهر: أن السجود قبل السلام، وإذا وقع بعده، لم يعتد به.
والثاني: أن الساهي بالخيار إن شاء قدم، وإن شاء أخّر.
والثالث: أنه يفصل بين أن يكون السهو زيادة، وبين أن يكون نقصاناً، وهو المنصوص عليه في القديم، وهو مذهب مالك.
وقال بعض أئمتنا: لا خلاف أنه يُجزىء التقديمُ والتأخير، وإنما التردد في بيان الأوْلى والأفضل، ففي قولٍ نقول: الأفضل التقديم، وفي قول: لا نفضل ولا نفرق ويجوز الأمران جميعاًً، وفي قول: يفصل بين الزيادة والنقصان في الأفضل، لا في الإجزاء؛ فإن الأمرين جميعاًً جائزان مُجزيان في الحالتين جميعاًً.
فهذه طريقة. وتوجيهها صحةُ الأخبار في التقديم والتأخير جميعاًً.
والطريقة المشهورة ردّ التردد إلى الإجزاء والجواز، كما تقدم. وهذه يظهر توجيهها في طريق المعنى؛ فإن السجود إذا وقع في الصلاة، كان زيادة في الصلاة، وإذا وقع وراء ذلك، كان منفصلاً عن تحريمة الصلاة وحكمها، وهما أمران متباعدان، والتخير بينهما بعيد، فرأى الشافعي في ظاهر المذهب؛ التمسك بآخر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعتمد في التفريع هذه الطريقة الأخيرة، ونبني الأمرين على التردد في الإجزاء، لا في الفضيلة، فإن فرعنا على المشهور، وهو أن السجود قبل السلام، فإن وقع ذلك، فلا كلام، وإن سلم الساهي، ولم يسجد، لم يخل: إما أن يسلم ساهياً ناسياً لسجود السهو، وإما أن يسلم عامداً ذاكراً لسجود السهو، فإن تعمّد وسلم، فقد فوت سجدتي السهو على نفسه، وتركهما عمداً، فالصلاة صحيحة، وقد فاتت السجدتان، وليس سجود السهو واجباً عندنا، بل هو سنة كسجود التلاوة.
وإن سلم، وتحلّل ناسياً، ثم تذكر: لم يخل، إما أن يتذكر على القرب، أو يتخلل فصل طويل. فإن تذكر على القرب، فهل يسجد على هذا القول؟ فعلى وجهين مشهورين:
أحدهما: يسجد، ويجعل كأن السلام لم يكن، وهو بمثابة ما لو نسي ركعة وسلم، ثم تذكر على القرب؛ فإنه يبني على صلاته، ويعد السلام الجاري في غير محله سهواً مقتضياً للسجود.
والوجه الثاني- أنه لا يسجد، وإن كان سلامه ناسياً؛ فإن السجود مما يجوز تركه قصداً، والسلام ركن جرى في محل جوازه، فاعتقاد خروجه عن وقوعه موقعه لمكان سنة لو تركها قصداً، لجاز، بعيدٌ.
والذي يحقق ذلك، أنه بعدما سلم ساهياً، قد يبدو له ألا يسجد إذا تذكر، وسأذكر السر في ذلك الآن.
التفريع على هذين الوجهين:
970- إن حكمنا بأنه لا يعود إلى السجود، فقد تحقق فوات السجود إذا سلم ناسياً.
وإن قلنا: يعود، فإن عاد، فهو في الصلاة ولو أحدث بطلت صلاته، ويقدّر كأنه لم يسلم، ويعتقد أن السلام لم يقع معتداً به، فيسجد سجدتين، ويسلم الآن، ولا وجه غيره. فلو بدا له ألا يسجد أصلاً بعدما تذكر، فقد رأيتُ في أدراج كلام الأئمة تردداً في ذلك، وهو محتمل جداً.
والظاهر أنه إذا أراد ذلك، قلنا له: فسَلِّم مرة أخرى، وإن السلام الذي تقدم لم يكن معتداً به، وآية ذلك أنه لو أراد السجود، لكان في الصلاة، ويستحيل أن يخرج من الصلاة، ثم يعود إليها.
ويحتمل أن يقال: أمر السلام الذي تقدم على الوقف والتردد، فإن سجد تبيّنا أنه لم يقع التحلل به، وإن أضرب عن السجود لما تذكر، تبَيّنَّا وقوعه موقعه.
فهذا كله إذا سلم ناسياً، ثم تذكر أمرَ السجود على القرب.
فأما إذا طال الفصل، كما سنذكر الضبطَ فيه، والتفريع على أن حق السجود أن يقدم، فلو جاء بالسجود بعد تخلل الفصل الطويل، فلا يعتد به أصلاً، وقد لاح فواته.
والمشكل الآن أن السلام هل وقع ركناً؟ فإن قدرناه ركناً محللاً على الصحة، فلا إشكال، ولو قدره مقدر غيرَ واقع ركناً، فكيف الوجه؟ فأقول: الوجه القطع بصحة التحلل في هذه الصورة، وهذا يعضده ما ذكرناه الآن، من أنه إذا تذكر، ثم بدا له ألا يسجد، أنه لا يعيد السلام.
فَلْيتَأمل الفقيه هذا الموضع، فلا وجه غيره.
هذا كله تفريع على أن شرط سجدتي السهو وقوعهما في الصلاة.
971- فأما: إذا قلنا: يجوز إيقاعهما خارجاً من الصلاة، فلو تعمد وسلَّم ذاكراً، وأراد أن يسجد بعد السلام، جاز على هذا القول إذا كان سجد على القرب.
ثم إذا سجد سجدتين، فهل نأمره أن يتشهد؟ القول الوجيز في ذلك، أنهما سجدتان منفصلتان عن الصلاة، فحكمهما حكم سجدة التلاوة، إذا وقعت خارجة من الصلاة، وقد ذكرنا تفصيل القول في أنه هل يتشهد، وهل يتحرم ويتحلل؟ فلا فرق بين سجدتي السهو، وبين سجدة التلاوة في هذا، إلا أن سجدة التلاوة فَرْدة، والسهو سجدتان. ونحن نقطع بأن لا يعود الساجد على هذا القول إلى الصلاة. ولو أحدث، لم تبطل صلاته أصلاً.
وقد قال أبو حنيفة: إنه يسلم، ثم يسجد، وزعم أنه يعود إلى الصلاة، فلو أحدث، بطلت صلاته، وهذا كلام متناقض، ولا معنى للخروج من الصلاة والعود إليها، وهذا مذهب لم يصر إليه أحد من أصحابنا في التفريع على هذا القول. فإن رأينا أن يتشهد: اشتراطاً، أو استحباباً، كما يفعل ذلك في سجدة التلاوة، فإنه يتشهد بعد السجدتين، كما ذكرناه في سجود التلاوة.
وحكى الشيخ أبو علي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه كان يقول حيث انتهينا إليه في التفريع: إنه يتشهد قبل السجدتين، لتقع السجدتان آخراً، وفي سجود التلاوة يتشهد بعد السجود. وهذا متروك عليه، وهو غير معدود من المذهب. وقد اعتمد فيه على تقديم السجود على السلام؛ إذ تخيل تقديمَ التشهد على السجود، هذا إذا أراد السجود متصلاً.
فأما إذا سلم وطال الفصل، ثم أراد أن يسجد سجدتي السهو بعد طول الفصل، فقد ذكر الصيدلاني وجهين:
أحدهما: أنه لا يقع الموقع، وطول الفصل يفوّته؛ فإن السجود وإن كان يقع بعد التحلل، فهو متصل بالصلاة، فيجب رعايةُ حقيقة الوصل فيهما، وهذا كالتسليمة الثانية إذا أمرنا بها، فإنها تقع بعد التحلل بالتسليمة الأولى، ولكن شرط الاعتداد بها أن تكون متصلة.
والثاني: أنه يقع الموقع وإن طال الفصل؛ فإنه في حكم الجُبران لما وقع في الصلاة وهو مشبه بجبرانات الحج، ثم الجبرانات إن وقعت في الحج أجزأت، وإن وقعت بعده متصلة، أو منفصلة أجزأت.
ثم إن قلنا: إذا انفصل وطال الفصل، فقد فات السجود، فينزل هذا منزلة سجدة التلاوة إذا فاتت، وقد ذكرنا قولين، في أنها هل تقضى أم لا؟ ويجري القولان في سجود السهو لا محالة.
فآل حاصل الكلام إلى أنا في وجه نحكم بفوات السجود، ونخرّج قولين في القضاء. وفي قول نحكم بأنه لا يفوت، فهذا منتهى البيان في ذلك.
972- والذي نتعلّق به الآن ضبط القول في الاتصال والانفصال، وهذا فن التزمناه في هذا المذهب مستعينين بالله.
فالمذهب أن الرجوع فيه إلى العرف في الفصل بين الاتصال والانفصال، ثم الذي ظهر لنا من العرف، أنه إن تخلل زمانٌ يغلب على الظن أنه قد أضرب عن السجود قصداً أو نسيه، فهذا حدّ الانفصال، وما دون ذلك اتصال. ولا يعتبر في ذلك غيرُ الرجوع إلى العرف، فلو طال الزمان على ما ذكرناه مع اتحاب المجلس، فقد تحقق الانفصال، ولو سلم، وفارق المجلس، ثم تذكر على قُرب من الزمان، فهذا محتمل عندي، فإن نظرنا إلى الزمان، فهو قريب، وإن نظرنا إلى العرف، فمفارقة المجلس، قد يُغَلِّب على الظن الإضرابَ عن السجود كما يُغلّب طويل الزمان على الظن ذلك.
والعلم عند الله.
وقد ذكر العراقيون في ذلك قولين عن الشافعي، أحدهما- أن المعتبر في ذلك قرب الزمان وبعده، وطوله وقصره.
والقول الثاني- قالوا: نص عليه في القديم، أنه يعتبر المجلس، فإن لم يفارقه، فهو متصل، وإن طال الزمان. وإن فارقه، فهو منفصل وإن قرب الزمان.
هذا ما أردناه من التفريع في محل سجود السهو.
فإن قيل: لو صلى، وأحدث، ثم انغمس في ماء على قرب من الزمان متصل، قلنا: الظاهر أن الحدث يفصل السجود، وإن قرب زمان الطهارة.
ثم قد مضى القول فيما يتصل وينفصل على الاستقصاء.
973- وإن فرعنا على القول القديم الموافق لمذهب مالك، فإن كان السهو نقصاناً، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على قولنا باشتراط إيقاع السجود في الصلاة، وإن كان السهو زيادة، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على إيقاع السجود بعد التحلل.
فصل:
إذا شك في أعداد الركعات في أثناء الصلاة، فقد مضى القول فيه مفصلاً، فلو سلم وتحلل، ثم شك بعد التحلل في أنه صلى ثلاثاً أم أربعاً، ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما: أن ما يطرأ من الشك بعد التحلل لا حكم له، وقد مضت الصلاة ظاهراً محكوماً بصحتها.
وهذا يوجَّه بأنا لو غيّرنا حكم الصلاة التي اتفق التحلل عنها بالشك، لما سلمت صلاةٌ في الغالب عن شك وتردد بعدها، على قرب من الزمان أو بُعْد، فوقع ذلك محطوطاً عن المصلي.
والقول الثاني- أنه مؤاخذ بحكم الشك-كما سنوضحه- اعتباراً بطريان الشك في أثناء الصلاة. وهذا القائل يمنع بلوغ هذا الأمر في طريان الشك مبلغ العموم، بل هو مما يندر ولا يعم، فإن فرض موسوس، فالحكم لا يبنى على حالة، وإنما يُبنى على أعم أحوال الناس.
ثم قال بعض المصنفين: لو جرى هذا التردّد بعد انفصال الزمان، جرى القولان أيضاً فإن نحن أسقطنا أثر التردد متصلاً، أسقطناه منفصلاً أيضاً وإن أمرنا المتردد على الاتضال بالتدارك، فإذا انفصل الأمر، فلا تدارك إلا باستئناف الصلاة.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إنْ جرى التردد بعد انفصال الزمان، فهو محطوط غيرُ معتبر قولاً واحداً، فإن هذا الآن صورة لا مستدرك لغائلتها؛ إذ الإنسان لا يدرك كيف صلى في أمسه، ولو أُمر إذا شك بالقضاء، فسيعود هذا بعينه-إذا طال الزمان- في القضاء، فلا يسلَم من هذا عاقل قط. ولا يجوز فرض الخلاف في هذا.
فأما إذا قرب التردد، ففيه القولان، كما قدمنا ذكرهما.
وهذه الطريقة حسنة بالغة.
974- وعندي كلام وراءها، وبه تتبين حقيقةُ الفصل.
فأقول: لو عرض للإنسان فكرٌ في صلوات أيامه السابقة، فإنه لا يتخيل جريانَها ووقوعَ أركانها في مظانها، فإنها انسلت بجملتها عن ذكره وغابت عن فكره، وإذا كان كذلك، ففرض التردد في تمامها ونقصانها، مع الذهول عن تفصيلها مما لا نعتقد المؤاخذةَ به أصلاً، فأما إذا تحلل عن الصلاة، وتخلل زمان متطاول، ولم يغب عن ذكره تفصيل صلاته، وتردّد مع ذلك في زيادة ونقصان، فتخريج ذلك على القولين ليس بعيداً على ما تقدم، ولا يمتنع أيضاً إخراج هذا عن القولين من حيث إنه يغلب مع طول الزمان الذهولُ، ويعم الضرر، ثم إذا لم نَحطّ حكم التردد، وقد اتصل، فيجعل كأنه لم يسلّم، وكأنه تردد في الصلاة، فيقوم، ويبني على صلاته، كما سبق. وإذا طال الفصل، ورأينا مؤاخذته، فليس إلا إعادة الصلاة واستئنافها، وقد تم ما نريد من ذلك.
فصل:
قال: "وإن ذكر أنه في الخامسة... إلى آخره".
975- إذا قام المصلي إلى ركعة، ثم علم أنها خامسة، فمذهبنا أنه كما علم ذلك يقطع تلك الركعة، ويعود إلى هيئة القعود، ولا فرق بين أن يتذكر ذلك وهو في قيام الركعة الزائدة، أو في ركوعها، أو كان انتهى إلى سجودها، فعلى أي وجه فُرض، فما جاء به غلط غيرُ محسوب، ولا قادح في صحة الصلاة.
976- ومن دقيق ما ننبه عليه في ذلك، أنا ذكرنا خلافاً في أن الكلام من الناسي، إذا كثر هل يبطل الصلاة؟ وردّدنا القول في الفعل الكثير من الناسي، كما سبق، والزيادة في الصلاة وإن كثرت، فإنها لا تبطل الصلاة وفاقاً، والسبب فيه أن الذي اعتمده من صار إلى أن الكلام الكثير من الناسي يبطل الصلاة، أنه يخرم نظمَ الصلاة، والزيادة الكثيرة من جنس الصلاة إذا صدرت من الناسي لا تخرم نظم الصلاة.
976/م- ومن دقيق القول فيه أن من زاد ركوعاً عامداً، بطلت صلاته عندنا، وإن لم يكن في مقداره موازياً لما يُعد كثيراً من الأفعال، والزيادة وإن قلّت-أعني زيادة ركن- مبطلة، فإنه اعتماد تغيير الصلاة بما يجانسها، والزيادة الكثيرة مع النسيان لا أثر لها.
فليفهم الفاهم ما نبديه من بدائع الفقه.
977- ثم إذا أمرناه بالعود إلى القعود، فننظر وراء ذلك، فإن لم يكن قد تشهد، قعد وتشهد، وسجد للسهو، وسلم.
وإن كان قد تشهد، لم يخل: إما إن كان تشهد على قصد التشهد الأخير، ثم طرأ من الغلط ما طرأ، أو كان تشهده ظاناً أنه التشهد الأول، فإن كان تِشهد على قصد التشهد المفروض، ثم أمرناه بالعَوْد، فهل يتشهد مرة أخرى؟ فيه وجهان معروفان:
أحدهما: أنه لا يتشهد، وهذا هو الذي لا ينقدح في المعنى والقياس غيرُه؛ فإنه قد تشهد مرة؛ فإيجاب الإعادة مرةً أخرى لا معنى له، ولكنه غلط لما قام إلى ركعة زائدة، فليعد، وليتدارك غلطته بسجدتين جابرتين للسهو.
والوجه الثاني- أنه يتشهد مرة أخرى، وهذا ظاهر النص في السواد؛ فإنه قال: سواء قعد في الركعة، أو لم يقعد؛ فإنه يجلس للرابعة ويتشهد.
فذهب ابن سُريج إلى موافقة ظاهر النص، وأوجب على الراجع القاطع الركعة الزائدة أن يتشهد، وعلل بعلتين: إحداهما- أن الموالاة شرط في الأركان فَلْيَلِ السلامُ تشهداً، وقد انقطع ذلك التشهد الذي جرى قبل القيام إلى الركعة الزائدة عن السلام.
فهذا معنى.
والثاني: أنه لو لم يعد للتشهد، لوقع السلام فرداً، لا يتصل بركنٍ قبله، ولا يعقبه ركن بعده.
وهذان المعنيان جميعاًً فاسدان عندي، أما الموالاة، فلا معنى لذكرها هاهنا، فإن من طوّل ركناً قصيراً ساهياً، فقد ترك الوِلاء ولا تبطل صلاته، وقد بنى الفقهاء الأمر على أن الموالاة إذا اختلت بذلك، وأخطأ في الصلاة، فلا أثر لاختلالها.
ثم يجرّ مساق هذا الكلام خبلاً وفساداً؛ فإن التشهد الأول، قد وقع معتداً به، فإن أخرجناه من الاعتداد به، فقد انقطع التشهد الذي نعتدُّه عن الأركان المتقدمة قبلُ، وهذا إن كان اختلالاً، فلا مستدرك لها أصلاً، ويجب من مساقه أن تبطل الصلاةُ أصلاً، فإن لم يجز ذلك، فليس إلاّ أن يُحتمل بقطع الوِلاء بسبب النسيان. وأما وقوع السلام فرداً، فهو مفرع على النظر إلى الموالاة، وإلا فليس فرداً، فهو منتظم مع الأركان المتقدمة.
978- ثم فرع ابن سُريج على معنييه مسألة، وهي أنه قال: لو هوى القائم إلى السجود، وقد ترك الركوعَ ناسياً، ثم تذكر، فإن نظرنا إلى مراعاة الموالاة، فلينتصب قائماً، وليركع ليلي الركوعُ القيامَ، ثم يرفع معتدلاً ويسجد، وإن نظرنا في مسألة العود من الركعة الزائدة إلى أن السلام ينبغي ألا يقع فرداً، فالذي يركع يرتفع إلى حد الراكعين، ولا ينتصب قائماً؛ فإن الركوع لا يقع فرداً؛ إذ بعده السجود وغيره من الأركان.
979- قلت: هذا أوان التنبيه لدقيقة، وهي أنا قد ذكرنا في تفريع صلاة العاجز أنه لو قرأ الفاتحة قاعداً، ثم وجد خفة، فإنه يقوم ليركع عن قيام، ولم نذكر فيه تردداً، فإن كان ما ذكرناه كذلك، فليجب أيضاَّ عَلى من هوى ساجداً، وترك الركوع أن يقوم لا لموالاةٍ، ولكن ليكون ركوعه عن قيامه. وإن قلنا: لا يقوم من هوى ساجداً، ويكفيه أن يرتفع راكعاً، فيجب أن نقول: من وجد خفة، وقد أقام فرض القراءة في القعود يكفيه أن يرتفع راكعاً؛ فإن القعود الذي جاء به في حال العجز قائم مقام القيام، ولا فرق في ذلك. فلا يؤتينَّ ناظر عن خبالٍ لا حاصل له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان تشهد على قصد التشهد الأخير، فأما إذا كان تشهد ظاناً أنه التشهد الأول، فالفرض هل يتأدى بذلك أم لا؛ فيه وجهان مشهوران.
ومن نظائر هذه الصورة، ما لو أغفل المتوضىء لمعة من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها بالثانية، وهو يقصد بها إقامة السنة، فهل يسقط الفرض عن تلك اللمعة؟ فعلى وجهين، فإن قلنا: لا يسقط الفرض، فهو رجل قام إلى ركعة زائدة، ولم يتشهد، فيعود ويتشهد لا محالة، وإن قلنا يسقط الفرض، فليلتحق هذا بالصورة التي تقدم الفراغ منها، وهي إذا تشهد على قصد الأخير، ثم قام. وقد مضى ذلك كافياً.
ولو لم يكن له قصد في التشهد، فهو كما لو قصد التشهد الأخير، وتعليل ذلك لا حاجة إلى إيضاحه.
فصل:
قال: "وإذا ترك التشهد الأول حتى قام منتصباً، لم يَعُد... إلى آخره".
980- التشهد الأول من أبعاض الصلاة، ويتعلق بتركه سجود السهو، وهو من أركان الصلاة عند أحمد بن حنبل.
ومعتمد المذهب حديث عبد الله بن مالك ابن بُحَيْنَة، قال: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي: الظهر أو العصر، فقام عن اثنتين، فسبحنا به، فلم يرجع، فلما بلغ آخر الصلاة، انتظرنا تسليمه، فسجد سجدتين، ثم سلم" فدل عدمُ رجوعه على أنه ليس ركناً، وسجوده للسهو ناصٌّ على ما ذكرناه من كونه من الأبعاض.
981- ثم ترتيب المذهب في تركه أنه إن قام المصلي، فاعتدل في وقت التشهد الأول، ثم تذكر ما كان منه، فليس له أن يعود لاستدراك التشهد الأول؛ فإنه قد تلبس بالقيام المفروض، فلا يجوز له أن يقطعه لاستدراك سُتةٍ، هذا إذا اعتدل.
والدليل على ذلك عدمُ رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه.
981/م- ولو نهض نحو القيام، ولم يعتدل فتذكر، فقد اختلفت عبارات الأئمة، فذكروا عبارتين نذكرهما، ثم نذكر ما عندنا من التحقيق فيهما إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ أبو بكر: إذا لم ينته إلى حد القيام، رجع وتشهد؛ فإنه لم يلابس فرضاً حتى تذكَّر، ثم إذا رجع، وتشهد، فهل يسجد للسهو؟ قال: إن كان انتهى في انتهاضه إلى مبلغ كان أقرب إلى القيام منه إلى القعود، فإن الذي صدر منه فعل كثير أتى به ساهياً، وسنذكر أنه مما يقتضي السجود.
وإن كان إلى القعود أقرب، فتذكر ورجع، فلا يسجد، وما أتى به في حكم الفعل القليل، الذي لا يؤثر في الصلاة. فهذا كلامه.
وقال شيخي وغيره: إن لم ينته في ارتفاعه إلى حدّ الراكعين بعْدُ، فتذكر ورجع، فالذي صدر منه محطوط عنه، ولا سجود، وإن انتهى إلى حد الراكعين، أو جاوز، ولم يلابس القيام، فإذا تذكر ورجع، سجد للسهو.
982- وأنا الآن أذكر مسالك كل فريق، فأقول: اعتمد الصيدلاني كثرةَ الفعل وقلَّته، وأنا أُجري ما قاله في صورة ليس فيها انتهاء إلى هيئة الراكعين، وإن قدّر ملابسة القيام مثلاً، فأقول:
إذا كان المصلي قاعداً، وانتصب من غير انحناء، وذهب ناهضاً إلى القيام، فهذا له ممر على هيئة الراكع، فالمرعي في هذه الصورة-على ما ذكره- النظرُ إلى الفعل.
ثم الضابط عنده في الكثرة أن يكون أقرب إلى القيام، فإذا رجع، سجد للسهو.
فإن قيل قد ذكرتم أنه لو خطا خطوتين عمداً، لم يضره، وخطوتان أكثر من الانتهاء إلى القيام في حركات الناهض؟ قلنا: لا نعرف أولاً خلافاً بين أئمتنا في أنه إذا قرب من القيام في الصورة التي ذكرناها فلم يلابس هيئة الراكعين، ورجع، أنه يسجد للسهو.
وإذا كان كذلك، فلا ينقدح في ذلك تعليل إلا مجاوزة الفعل حدَّ القلة.
ثم الممكن في ذلك عباراتان: إحداهما- أن من حرَّك يداً وسائرُ بدنه قار، فليس فعله على رتبةِ فعل من يحرك جملةَ بدنه. والناهض صعُداً يحرك جملة بدنه.
فإن قيل: الماشي كذلك؟ قلنا: ولكن التعويل في الماشي على حركة الرجلين والبدن محمولهما ومنقولهما، فوقع التعويل على حركة الرجلين، والناهض يحرك بدنه قصداً، وهذا ما أراه شافياً للغليل.
والمعتمدُ العبارة الثانية، وهي: أن القرب من القيام يُفيد من تغيير هيئة الصلاة على الاختصاص بها ما يفيده الفعلُ الكثير، ولذلك قلنا: إن من ركع ركوعاً زائداً عمداً، بطلت صلاته، وإن لم يبلغ مبلغ الفعل الكثير، لأنه يؤثر في تغيير نظم الصلاة فكذلك القرب من القيام، وإن لم يكن إتياناً بصورة رُكن، فهو مختص بتغيير نظم الصلاة، فكان كالفعل الكثير. وإن كان الناهض أقرب إلى القعود، فهذا يوازي الفعلَ القليل الذي لا يغير نظم الصلاة، فأما الخطوة، فليست في جهة نظم الصلاة وانتقالاتها، فروعي فيها المقدار الكثير، وهذا في نهاية الحسن.
983- والذي أراه: أنه إن صوَّر متكلف كونَ الناهض على حد يستوي فيه نسبته إلى القعود والقيام، فلو رصع من هذا الحد، لم يسجد، كما لو كان أقرب إلى القعود، وهذا لا شك فيه.
هذا كله ترداد على عبارة الشيخ أبي بكر، وقد فرضنا في تنزيل عبارته انتهاضاً لا انحناء فيه.
984- وأما من ذكر حد الراكعين، فيصور انتهاضاً على هيئة الانحناء، حتى يقدر الانتهاء إلى القيام، فعلى هذا الوجه نُبين معظم أحوال الناهض في العادة، فنقول: إن انتهى إلى حد الراكعين، فتذكر، رجع وسجد للسهو، والسبب فيه أنه أتى بصورة ركن، وقد ذكرنا أن الإتيان بصورة ركن يؤثر في الصلاة، فيبطل عمدُه الصلاة، ويقتضي سهوهُ سجودَ السهو.
985- وهاهنا لطيفة لابد من ذكرها، وهي أن الركوع الواقع ركناً شرطُ صحة الاعتداد به الطمأنينة، ولو لم تقع، لم يصح. والركوعُ الزائد المفسد للصلاة، لو فرض على وِفازٍ من غير طمأنينة، فهو مبطل للصلاة، فلا يتوقف بطلانُ الصلاة بالركوع الزائد على الطمأنينة، وإن كان يتوقف الاعتداد به ركناً على الطمأنينة.
والسبب فيه من جهة المعنى أن المفسد للصلاة إنما يفسدها من جهة أنه يغيّر نظمها، وهذا المعنى يحصل وإن كان الركوع على وفاز.
وأما الركوع الذي يقع معتداً به، فالغرض منه، ومن كل حالة من حالات المصلي الخضوع، ولا يتأتى إيقاع الخضوع من غير لبث ومكث، يفصل الركنَ عن الركن.
986- ومما نقدمه قبل الخوض في المقصود، أن من يهوي من قيامه إلى السجود على هيئة الانحناء ماراً، فليس يحصل في هويه صورة الركوع.
وقد ظن أبو حنيفة أنها تحصل، فزعم أن القائم إذا هوى ساجداً، فقد حصل الركوع في ممره وهويه، وكفى ذلك، والطمأنينة ليست شرطاً. والأمر على خلاف ما قدر.
987- وأنا أقول: وإن ذكرت أن الركوع الزائد على وفاز يُفسد، فلابد من فرض إفراده بصورته، فالقاعد إذا قام قصداً إلى هيئة الراكعين، ولم يطمئن ورجع، فهذا يفسد الصلاة عمدُه، لأنه وإن لم يسكن، فقد صور الركوع لما انتهى إليه، ثم انصرف عنه، فيمثل الركوع، والذي يهوي من قيام، لم يمثل الركوع بوقفةٍ ولا انصراف.
988- وإذا ثبتت هذه المقدمات، فنحن نتكلم فيما ذكره شيخي وغيرُه من الانتهاء إلى حد الراكعين، فَلْيعلم الطالب أن إدراك هذا ليس باليسير الهين، وأنا بعون الله أذكر فيه ضابطاً حسناً، فأقول:
القائم إذا كان يبغي الركوع الكامل والحد الفاصل، فقد وصَفْته في فصل الركوع، وإنما يتبين سره الآن، وقد مضى أن الأوْلى في هيئة الراكع أن يستوي ظهره ورقبته، ولا يخفض شيئاًً عن شيء ولا يرفع، وهذا عندي على نصف حد القيام، وكأنه الوسط بين الانتصاب التام وبين السجود، فلنعتقد ذلك، ولنتخذه معتبرنا.
فأقول: قد مضى أن أقل الركوع أن ينحني المصلي حتى يصير بحيث لو مد يديه، نالت راحتاه ركبتيه، مع اعتدال الخلقة.
وأنا أقول الآن: بين القيام التام وبين الانتهاء إلى الوسط الذي هو رتبة الكمال مسافة، فأقل الركوع هو أن يصير أقرب إلى الوسط في انحنائه منه إلى انتصابه، فهذا حدُّ أقلّ الركوع قطعاً. ثم كما تنقسم المسافة من هيئة الانتصاب إلى الوسط في جهة الهوي، فكذلك إذا فرض انتهاض القاعد إلى حد الركوع، فبين قعوده والوسط الذي جعلناه معتبرنا في هذا الفصل مسافة، فإن نهض منحنياً، وكان أقرب إلى حد الوسط، فهذا من هذه الجهة انتهاء إلى حد الراكعين، وهو أنقص من الكمال، ولكنه في حد الركوع فإذا انتهى إلى حد الركوع من قعوده، ثم رجع، سجد، فإن انتهض، ولم يصر أقرب من حد الوسط، فليس منتهياً إلى حد الركوع، فيرجع ولا يسجد.
فهذا كشف الغطاء في ذلك كلِّه، وأين يقع هذا الفصل من غوامض الفقهِ؟ فلينظر الطالب في أسراره وليُكْبر الفقهَ في نفسه.
989- ثم أقول وراء ذلك: من راعى من أصحابنا الانتهاض إلى حد الراكعين، فلو فرض عليه الانتصاب من غير هيئة الانحناء إلى القرب من القيام، فإنه يثبت السجود هاهنا، ولا شك أنه لو فرض على من يراعي الانتهاء إلى قرب القيام أن ينتهي إلى حد الراكعين وصورتهم، ثم يرجع، فإنه يقول: إنه يسجد، فإنه أتى بصورة الركوع وانصرف، فكان هذا ركوعاً زائداً أتى به ساهياًً، فاقتضى سجوداً لا محالة.
فهذا نجاز الفصل بما فيه.
فصل:
990- قد ذكرنا أن من ترك التشهد الأول ساهياً وانتصب قائماً، فليس له أن يقطع القيام بعدما لابسه؛ فإنه لو فعله، كان قاطعاً فرضاً لاستدراك مسنون، ولو عاد، نُظر: فإن كان معتقداً امتناع الرجوع والقطع، فخالف عقدَه ورجع، بطلت صلاته.
وإن كان يعتقد مذهب أحمد بن حنبل في فرضية التشهد الأول، فرجع، لم تبطل صلاته.
ولو التبس عليه مع انتحاله مذهب الشافعي أن الرجوع ممنوع، فرجع على ظن جواز الرجوع، لم تبطل صلاته، وأُمر بسجود السهو على ما ذكرناه.
991- ولو كان مقتدياً بإمامٍ، فهمّ إمامُه بالقيام ونهض إليه، فبادره المأموم بحق القدوة، واتفق سبقُه إلى حد القيام، ثم علم الإمام أنه غالط، وما كان انتهى إلى حد القائمين، فرجع إلى التشهد، والمأموم قد انتهى إلى حد القيام التام، فهل يرجع إلى القعود للاقتداء بإمامه؟
اختلف أئمتنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يرجع، وفاء بالقدوة التي نواها والتزمها، فان ذلك واجب، وإذا فعل ذلك، لم يكن قاطعاً واجباً لمكان سُنَّة، وإنما يقطع قياماً غلط في ملابسته، بسبب تحقيق موافقته لإمامه.
والثاني: أنه لا يقطع القيام، بل يصابره إلى أن يلحقه إمامه فيه، وهذا لا يبين إلا بأن يعلم أن المقتدي لو تقدم على إمامه بركنٍ واحد قصداً، لم تبطل صلاتُه، ولم تنقطع قدوته، وكان ذلك بمثابة ما لو تخلف عن إمامه بركن. وسنذكر ذلك في أحكام الجماعة، ونذكر خلافاً فيه.
992- فليقع التفريع على ظاهر المذهب.
فيخرج عن ذلك أن الخلاف الذي ذكرناه في جواز الرجوع إلى متابعة الإمام، فمن أئمتنا من منعه، وقال: لو رجع مع العلم بامتناع الرجوع، بطلت صلاته.
ومنهم من قال: يجوز له الرجوع.
ولم يوجب أحد الرجوع؛ فإنه لو قام قصداً، وترك متابعة إمامه في التشهد، لم نقض ببطلان صلاته، وكان في حكم من تقدم على إمامه بركن، فانتظره فيه حتى لحقه.
وهذا يتضح بصورة أخرى، وهي أنه لو قام قصداً إلى القيام من غير فرض زلل، وتقدير غلطٍ منه، فالوجه القطع بأنه لا يجوز له قطع القيام في هذه الصورة. وسنذكر نظيراً لذلك على الاتصال، فنقول: إذا رفع المأموم رأسه عن الركوع قبل ارتفاع الإمام قصداً، وانتصب قائماً، فلو أراد أن يرجع، لم يكن له قطعاً، ولو فعله على علم بامتناع ذلك الرجوع، بطلت صلاته؛ فإنه يكون راكعاً ركوعين في ركعة واحدة، وهو مبطل للصلاة.
993- ولو كان موقف الإمام بعيداً، فسمع المأموم صوتاً، وحسب أن الإمام قد انتصب، فارتفع، ثم تبين له أن الإمام بعدُ في الركوع، فهل له أن يرجع ويركع؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز الرجوع، كما لو تعمد رفع الرأس من الركوع؛ لأنه لو رجع، كان آتياً بركوعين، وذلك غير سائغ، كما تقدم ذكره في العامد، ومنهم من قال: يجوز الرجوع؛ فإن قيامه كان من غلط، فإذا رجع، كان كما لو لم يقم واستدام الركوع.
994- ثم إذا قلنا: يجوز الرجوع إلى التشهد، فلو قيل لنا: ما الأولى؟ لم يتجه إلا القطع بأن الأولى ألا يرجع، ويصابر القيام، فلو لم يستفد بذلك إلا الخروج عن الخلاف، لكان ذلك كافياً، فإنه لا يجب عليه الرجوع، وفي العلماء من يصير إلى أنه لا يسوغ الرجوع، فكان إيثار الخروج عن الخلاف أمثل.
995- ولو رفع رأسه عن الركوع غالطاً كما ذكرناه، ثم هم بالرجوع، فكما هم به، ارتفع إمامه من حد الراكعين، فليس له أن يرجع، فإنه إنما كان يرجع لإيثار متابعة الإمام، والآن لا يصادف الإمامَ راكعاً، فلا محمل لعوده إلا تثنية الركوع صورة في ركعة واحدة، وذلك غير سائغ، وتعمده مبطل للصلاة، كما تقدم تقريره.
فإن قيل: هلا قلتم: إنه انتصب قائماً غالطاً، فلا يُعتد بانتصابه، فليعد-وإن لم يصادف إمامَه- قطعاً للغلط، ثم يفتتح انتصاباً بعد ذلك؟ قلنا: لا أصل لهذا الكلام؛ فإنه إذا كان يجوز أن يتعمّد فينتصب سابقاً للإمام، فالإصرار على إدامة هيئة القيام، وإن اقترن بالانتصاب غلطٌ هو الوجه، فإن تعديد الركوع من المبطلات، وتقدّم الإمام بركن من جملة ما يحتمل.
فقد تقرر ما حاولناه.
ولو كان وقوع مثل ما ذكرناه على وجه الغلط يُثبت الرجوع، لوجب أن يقال: الإمام أو المنفرد إذا قام غالطاً، ولم يتشهد التشهد الأول، فإنه يعود بعد التلبس بالقيام، فإن انتصابه كان على حكم الغلط، فدل على أن التعويل في صورة الخلاف المذكورة في هذا الفرع على المتابعة، والجريان على موجب القدوة، والعود إلى التأسي والاقتداء، وهذا إنما يتحقق إذا كان يصادف الإمام فيما تركه وتقدمه.
فهذا حاصل القول في ذلك.
فصل:
996- رعاية الترتيب واجبة في أركان الصلاة، فلو أخلّ المصلي بالترتيب قصداً، بطلت صلاته، وإن ترك الترتيب ساهياً، لم يُقْض ببطلان صلاته، ولكن لا يُعتد بما يأتي به على خلاف الترتيب، ثم قد يقتضي ذلك إحباطَ بعض ما يأتي به في الأوساط، كما سنوضحه بالأمثلة والصور.
997- فنقول: إذا ترك الرجل سجدة في الركعة الأولى، وقام إلى الثانية ناسياً، فما يأتي به من قيام، وقراءة، وركوع في الركعة الثانية، فغير محسوبٍ، ولا مُعتد به؛ فإن الركعة الثانية مرتبة على الركعة الأولى، فما لم يؤدِّ جميعَ أركان الركعة الأولى، لا يحتسب بما يأتي به في الركعة الثانية.
وكذلك لو أتم الركعة الأولى، وأخل بركن في الثانية، وقام إلى الثالثة، فلا يعتد بشيء من أعمال الثالثة حتى يتدارك ما أخل به في الثانية.
فيخرج من ذلك أن الترتيب مستحق، وتَرْكُه عمداً قاطع للصلاة، مبطل لها، وتركه ناسياً لا يبطلها، ولكن يتضمن ألا يُعتدَّ بما يأتي به على خلاف الترتيب.
998- ونقل بعض الناس من مذهب أبي حنيفة أن الترتيب ليس بمستحق، وهذا غير صحيح من مذهبه، ولكنه يقول: لو ترك أربع سجدات من أربع ركعات، فأعمال الركعات محسوبة، وعلى من ترك السجدات الأربع أن يأتي بأربع سجدات وِلاء في آخر الصلاة، فإذا فعل ذلك، انجبر النقصان، وانقطعت السجدات على مواقعها. وحقيقة مذهبه أن يقول: إذا أتى في كل ركعة بسجدة واحدة، فقد تقيدت كل ركعة بسجدة، والركعة المتقيدة بسجدة في حكم ركعة تامة عنده، ولو أخَّر أربع سجدات قصداً من الركعات، فإنه يأتي بها وِلاء عنده في آخر الصلاة، وتصح الصلاة.
ولو أخلى الركعات عن السجدات كلها، فإن كان ذلك عمداً، بطلت صلاته، وإن كان سهواً، لم يعتد بشيء من أعمال تلك الركعات، ومذهبه كمذهبنا في هذه الصورة.
وكذلك لو أخلى كل ركعة عن ركوعها، أو قراءتها، فهذا عمدُه مبطل، وسهوه مقتضٍ ألا يحتسب بما يأتي به على خلاف الترتيب، كل هذا مما وافقنا فيه.
فخرج عن مجموع ما ذكرناه أن الترتيب مستحق بالاتفاق، فليقع التعويل في الدليل على اشتراط الترتيب بالإجماع.
وما ذكره أبو حنيفة في إخلاء كل ركعة عن سجدة واحدة، لم يذكره، لأنه لا يراعي الترتيب، ولكنه اعتقد أن الركعة إذا تقيدت بسجدة، كانت في حكم الركعة التامة، وهذا زلل بيّن؛ فإن الركعة لو تمت، لما وجب تدارك السجدة المتروكة، وأنزلت الركعة المقيّدة بسجدة منزلةَ الركعة التي تدارَك المسبوقُ فيها إمامَه في الركوع؛ فإنها محسوبة، وإن لم يجر فيها القيام على ما يجب عند التمكن.
فقد تمهد إذن ادعاء الإجماع في اشتراط الترتيب، وحُمل مذهب أبي حنيفة في ترك أربع سجدات من أربع ركعات على أمر تخيله في تمام كل ركعة واستقلالها بالسجدات المفردات.
999- فإذا تمهد ذلك، فنحن نذكر صوراً في ترك سجدات من ركعات على حكم السهو، ونذكر مقتضى المذهب فيها إذا تَفصَّل للمصلي بعد السهو كيفية الأمر، ثم نذكر ترك سجدات مع التباس الأمر في الكيفية.
فلو ترك سجدةً من الركعة الأولى، وجرى في صلاته على حكم السهو، ثم تذكر كيفية الحال في آخر الصلاة، فنقول: يحصل له من الركعتين الأوليين في الصلاة الرباعية ركعةٌ واحدةٌ؛ فإنه لما قام إلى الركعة الثانية وعليه سجدة من الأولى، فالقيام والقراءة والركوع والاعتدال عنه غير محسوب في الركعة الثانية، لما تقدم تقريره من ترك الترتيب، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا له منهما بسجدة واحدة، وتممنا الركعة الأولى، والسجدة الثانية غير معتد بها، وكأنه صلى ركعة واحدة، وأتى لها بثلاث سجدات ساهياً، فيُعتدّ بسجدتين. وتلغى الثالثة.
1000- ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، ثم قام إلى الركعة الثانية ساهياً، ونسي السجدتين جميعاً في الركعة الثانية، ثم أتى في الركعة الثالثة بسجدتين فيحسب له من الركعات الثلاث ركعةٌ واحدة؛ فإن عمله في الركعة الثانية كلا عمل، وما أتى به في الركعة الثالثة قبل السجدتين، فغير محسوب ولا معتد به، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا إحداهما، وكملنا به الركعة الأولى، وأحبطنا الثانية، فتحصل له من المجموع ركعةٌ واحدة تامة.
1001- ولو تبين للذي يصلي أربع ركعات في آخر صلاته أنه ترك من كل ركعة سجدة، فنقول: حصل له ركعة واحدة من الأولى والثانية، وحصلت له ركعة ثانية من الثالثة والرابعة، فيقوم ويضم إليها ركعتين كاملتين ويسجد للسهو، لمكان الزيادة التي يعتد بها.
1002- ولو ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وأتى بسجدتين في الثالثة، وأتى بسجدة واحدة في الرابعة وأخذ يتشهد على أنه أتى بالركعات الأربع على كمالها، ثم تذكر حقيقةَ الحال، تبين أنه حصل له من ثلاث ركعات ركعة واحدة، والرابعة ناقصة بسجدة، وإذا تذكر ذلك، فعليه أن يكمل الركعة الأخيرة بسجدة، فإذا فعل، فقد حصلت له الآن ركعتان، فيقوم ويصلي ركعتين تامتين، ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو.
1003- ومن القواعد الواضحة في مذهب الشافعي في ذلك، أنه لو ترك المصلي سجدات من ركعات، وأشكل عليه مواضعها، وكيفيةُ الأمر في تركها، واستمر الإشكال، فحق عليه أن يأخذ بأسوأ الأحوال، وما يقتضي مزيدَ العمل على أقصى التقدير في التدارك؛ فإن مذهب الشافعي وجوبُ بناء الأمر عند وقوع الإشكال على الأقل المستيقن، وتدارك المشكوك فيه.
1004- وبيان ذلك بالتصوير، أنه لو علم في آخر الصلاة الرباعية أنه نسي أربع سجدات، ولا يدري كيف جرى تركها، فنقول: لو كان تمم الركعتين الأوليين وترك أربع سجدات من الثالثة والرابعة، وأخلاهما عن السجود وتشهد، وتذكر، لكُنا نقول: اسجد سجدتين وقد تمت لك ثلاث ركعات، فقم إلى الركعة الرابعة، فهذا حكم هذه الحالة لو كانت.
ولو كان ترك من كل ركعة سجدة، وبان له ذلك بالأخرة، لكُنا نقول: أنت على ركعتين، فقم إلى ركعتين كاملتين: هما ثالثتك ورابعتك.
ولو كان ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، لكُنا نقول: إذا بان ذلك، أنت الآن على ركعتين إلا سجدة، فاسجد سجدة وقد حصلت ركعتان، وقم إلى تمام ركعتين.
فهذا بيان وجوه الكلام في ترك أربع سجدات من أربع ركعات، لو تبينت الكيفية، وتفصل الأمر.
فإذا علم أنه ترك أربع سجدات، ولم يدر كيف تركها، وكيف انقسم تركها على الركعات، فوجه الأخذ بالأسوأ والبناء على الأقل المستيقن، أن نأخذ بترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، فيسجد سجدة، وقد تمت ركعتان على قطع، ويقوم إلى ركعتين تامتين، ثم يتشهد بعدهما، ويسجد للسهو، ويسلم.
1005- وكان شيخي أبو محمد يذكر حيث انتهينا إليه أنه إذا ترك أربع سجدات وأشكل عليه كيفية الأمر، فيسجد سجدتين، ويقوم ويصلّي ركعتين تامتين، وكان يعلل ذلك ويقول: يحتمل أنه ترك السجدتين من الثالثة، والسجدتين من الرابعة، وتمَّمَ الركعة الأولى والثانية. ولو كان الأمر كذلك، لكان الحكم أن يسجد سجدتين، وقد تمت له ثلاث ركعات، ويقوم إلى الرابعة، فإذا أشكل الأمر، فلا يأمن أن يكون الأمر كذلك، فتنحتم سجدتان في الحال، ولو قام، ولم يأت بهما والحالة هذه، بطلت صلاته، فنأمره أن يأتي بسجدتين، ولا يحتسب له إلاّ ركعتان مما أتى به، فيقوم ويصلي ركعتين، فيكون قد أتى بكل ما يقدر وجوبه.
وهذا الذي ذكره غير سديد عندي؛ فإن السجدة الثانية لا تقع موقع الاعتداد في حسابٍ أصلاً، وإنما يقدر الاعتداد بسجدةٍ واحدة، وحيث قدر رحمه الله ترك السجدات الأربع من الثالثة والرابعة، فلو سجد سجدتين، حصل له ثلاث ركعات، وإذا كان الإشكال مستمراً، لا يحصل إلاّ ركعتان، والركعتان تحصلان بسجدة واحدة يأتي بها، ثم يقوم إلى ركعتين أخريين تامتين، والسجدة الثانية إنما أوجبها الشيخ أخذاً من تقدير ترك الأربع من الثالثة والرابعة، وفي هذا التقدير لو سجد سجدتين، لحصلت ثلاث ركعات، فلا وجه لما قاله، إلا أنه قد يجب سجدتان في هذا المقام، ولا يجوز تأخيرهما، فَلْيأتِ بهما، وإن كان لا يستفيد بالثانية شيئاًً معتداً به، وهذا مدخول؛ فإن ما لا يُعتد به قطعاً لا معنى للإتيان به، ولئن كان في الاقتصار على سجدة متعرضاً لإمكان تأخير سجدة في حساب، فليحتمَل ذلك في حال الإشكال إذا كان الإتيان بالكمال يحصل.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه إن وجب سجدتان لا يعتد بإحداهما لتقدير أنهما قد يقدر وجوبُهما الآن مع تقدير تحريم تأخيرهما، فهذا يعارضه أن السجدة الثانية قد تكون زائدة والإتيان بسجدة في غير أوانها مبطلٌ للصلاة، وهذا يعارض ما ذكره، وإذا تعارضا، تعين صرفُ الأمر عند الإشكال إلى ما يقدّر أن يقع معتداً به.
وإنما زدت الكلام في ذلك؛ لأن شيخي كان يتولع بما حكيته، ويكرره في دروسه، وهو عندي زلل غير معدود من المذهب أصلاً.
وكل ما ذكرناه فيه إذا استمر الإشكال إلى آخر الصلاة على ما يقدره صاحب الواقعة آخر صلاته، ثم تبين الأمر، أو دام الإشكال في الكيفية.
1006- فأمّا إذا نسي سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الثانية، ثم تذكر في الثانية ما جرى، نُظر، فإن تذكر وهو في أثناء القيام، فلا شك أنه يقطع القيام، ويعود فيستدرك السجدة المنسية. ثم نفصل القول. فنقول: إن سجد في الأولى سجدةً، فلا يخلو إما أن ينتصب عَقِيبَها قائماً من غير جلوس، وإما أن يجلس، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فإن لم يجلس، وانتصب قائماً، ثم تذكر وأمرناه بالعود، فيعود ويجلس، ثم يسجد عن جلوسٍ، أم يكفيه أن يسجد عن قيام من غير جلوس؟ ذكر أئمتنا في ذلك وجهين في الطرق كلها:
أحدهما: أنه يجلس ثم يسجد، فإن المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن جلس على إثر السجدة الأولى، والجلوس بين السجدتين ركن كالسجدة نفسها، وهذا ظاهر المذهب.
والوجه الثاني- أنه لا يلزمه الجلوس؛ فإن الغرض من الجلوس الفصلُ بين السجدتين بانتصابٍ تام، والقيام الذي جرى أفاد ذلك الفصلَ، فليقع الاكتفاء به، وكل هذا في التحقيق يؤول إلى أن الجلسة بين السجدتين ركنٌ مقصود أم الغرض منها الفصل بين السجدتين؟ وسيأتي بعد ذلك من التفريع ما يشهد لهذا الاختلاف.
ثم من يكتفي بالقيام فاصلاً، فلا شك أنه يمنع الإتيان بذلك عن الجلوس في حال الذكر، وإنما يقيم القيام مقام الجلسة إذا جرى وفاقاً مع النسيان، والسبب فيه أن القيام ركنٌ مقصود في نفسه، فالإتيان به إقدامٌ على زيادة ركن على نظم الصلاة وترتيبها، فيكون كزيادة ركوع أو سجود.
ولو قيل: الجلوس أيضاً يقع في أوانه ركناً، ويقع به الفصل بين السجدتين؟ فالجواب أن القيام يخالف مورد الشرع، ففي الإتيان به إتيان بصورة ركن على خلاف الشرع، والمتَّبع الشرعُ في العبادات، هذا أصل الشافعي في قاعدة العبادات.
فهذا إذا لم يكن جلس عَقِيب السجدة الأولى من الركعة الأولى، فأما إذا كان جلس، ثم قام قبل أن يسجد السجدة الثانية، نُظر: فإن جلس على قصد الفصل بين السجدتين، ثم طرأت غفلة أذهلته عن السجدة الثانية، فقام، فإذا تذكر، وقطع القيام، فلا يجلس، بل يهوي ساجداً؛ فإن الجلوس قد أتى به على وجهه، ثم قام.
وإن جلس على قصد جلسة الاستراحة وقام، فقد أتى بصورة الجلوس، فإن كنا نقيم القيام مقام الجلوس بين السجدتين، فلا كلام، وإن لم نُقمْه مقام الجلوس، ففي الجلوس الذي أتى به على قصد الاستراحة وجهان:
أحدهما: أنه كافٍ ولا حاجة إلى الجلوس عند العود.
والثاني: أنه لابد من الجلوس؛ فإن الجلوَس الذي أتى به قبل السهو نوى به إقامة السنة، والفرض لا يتأدى بقصد السنة، وهذان الوجهان كالوجهين فيما إذا أغفل المتوضىء لمعةً من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها في الغسلة الثانية، وقصد بالغسلة الثانية إقامةَ السنة، ففي سقوط الفرض عن اللمعة التي أغفلها وجهان، تقدم ذكرهما في الطهارة.
ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الركعة الثانية، ثم تذكر بعدما انتهى إلى الركوع، فإنه يقطع الركوع ويهوي منه إلى السجود، كما تقدم، ثم التفصيل في القعود كما تقدم.
فصل:
1007- يجمع مجامع الكلام فيما يقتضي سجود السهو، فنذكر ما رسمه أئمة المذهب في التقسيم، ثم نذكر حقيقةً تُطلع الناظرَ على سرّ الفصل إن شاء الله تعالى.
قال الأئمة: سجود السهو يتعلق بترك مأمور به، وارتكاب منهي عنه: فأما المأمور به الذي يتعلق به سجود السهو، فلا شك أن من ترك ركناً من صلاته، لم ينجبر ما تركه بسجود السهو، ولابد من تدارك ما تركه؛ فإذاً لا يتعلق السجود إلا بترك بعض السنن، ولا خلاف أنه لا يتعلق بترك جميعها، وإنما يتعلق ببعضها.
فالسنن التي يتعلق السجود بتركها: الجلوسُ للتشهد الأول، والقنوت في صلاة الصبح، وإن عُدَّ الوقوف للقنوت، ثم ذُكر القنوت لم يبعد، والصلاة على الرسول في التشهد الأول مختلف فيه، كما مضى في باب صفة الصلاة، فإن لم نرها، فلا كلام، وإن أمرنا بها، فهي من الأبعاض التي يتعلق السجود بها، والصلاة على الآل مختلف فيها أيضاً، ثم إن اعتبرناها، وأمرنا بها، يتعلق بتركها سجود السهو.
ثم سمى الأئمة هذه المأمورات أبعاضاً، ولست أرى في هذه التسمية توقيفاً شرعياً، ولعل معناها أن الفقهاء قالوا: يتعلق السجود ببعض السنن، ثم قالوا: هذه السنن هي الأبعاض التي يتعلق بها السجود، والأبعاض تنطلق على الأقل، وما يتعلق به سجود السهو أقل مما لا يتعلق به السجود من السنن.
ثم من أثبت التشهد الأول سنة، ولم يقض بكونه فرضاً، مجمعون على تعلق سجود السهو به، وكذلك من رأى القنوت مأموراً به، رآه من الأبعاض التي يتعلق بتركها السجود.
وأبو حنيفة لمّا أثبت القنوت في الوتر، علق بتركه السجود، كذلك من رأى القنوت في صلاة الصبح، وفي ذلك آثار عن جهة الصحابة.
ويستمر على مذهبنا في غير القنوت شيء، وهو أن كل سنة ذهب إلى وجوبها طائفة من الأئمة، فهو من الأبعاض، وأحمد بن حنبل أوجب الجلوس الأول، والتشهدَ والصلاة، فجرى ما ذكرناه. والقنوتُ في صلاة الصبح لم يبلغني فيه خلاف في الوجوب، فلعل المتبع فيه الآثار.
ثم من ترك بعضاً من هذه الأبعاض سهواً، سجد، ومن تركها عمداً، فهل يسجد؟ فعلى وجهين:
أحدهما: يسجد؛ لتحقق الترك، وهذا القائل يرى العمدَ أولى بالجبران، وأبعد بالعذر.
والوجه الثاني- أنه لا يسجد، وهو مذهب أبي حنيفة، ووجهه أن الساهي معذور، فأثبت له الشرع مستدركاً. ومن تعمّد الترك، فقد التزم النقصان، فلم يثبت له الشرع سبيلَ الجبران.
فهذا تفصيل القول في المأمور به الذي يتعلق بتركه السجود.
1008- فأما المنهي عنه، فقد قال الأئمة: كل منهي عنه لو تعمده المصلي، بطلت صلاته، ولو وقع منه سهواً، لم تبطل صلاته، فنأمره إذا سها، وأتى به، بالسجود.
وطمع المحققون في طرد هذا الحد وعكسه، في قبيل المنهيات، وقالوا: ما كان عمدُه مبطلاً وفاقاً، فسهوه مقتضٍ للسجود وِفاقاً، وما لا فلا، وما اختُلف في أن عمدَه هل يبطل الصلاة؟ اختُلف في أن سهوه هل يقتضى السجود؟ وسنوضح الوفاء بهذا في الطرد والعكس.
1009- ومما يخرج على الطرد ترك ترتيب الأركان؛ فإن من قام إلى الركعة الثانية ولم يأتِ بسجدة في الأولى، فإن تعمد ذلك، بطلت صلاته، وإن كان ساهياً، استدركَ الركنَ، كما تقدم تفصيله، وسجد للسهو كما تقدم، وكذلك من زاد ركوعاً أو سجوداً عمداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد، ومن تكلم عامداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد.
ثم من الأصول التي تلتحق بذلك فيما زعموه، أن من طوَّل ركناً قصيراً، أو نقل إليه ركناً، فجمع بين التطويل، ونقْل الركن، كمن يقرأ في رفع الرأس من الركوع الفاتحة. قالوا: هذا إذا سها بذلك، يسجد للسهو، وجهاً واحداً، ولو تعمد، بطلت صلاته.
ولو قرأ التشهد في القيام، أو الركوع، أو السجود، أو قرأ الفاتحة في القعود في التشهد، فإن جرى ذلك سهواً، ففي الأمر بسجود السهو وجهان، فإن جرى عمداً، ففي بطلان الصلاة وجهان.
ولو طول القومة عن الركوع بسكوتٍ، أو ذكرٍ ليس بفرض، ففي كونه مبطلاً عند التعمد وجهان، وكذلك في اقتضائه سجودَ السهو عند السهو وجهان، وقال هؤلاء: إن وُجد تطويل الركن القصير، ونقْلُ ركنٍ إليه، فهذا أوان القطع بالبطلان في العمد، والأمر بالجبران في السهو، وإن وجد تطويلٌ بلا نقلٍ؛ كتطويل القيام عن الركوع من غير نقلٍ، أو وجد نقل بلا تطويل ركن قصير، كالذي يقرأ الفاتحة في التشهد، أو التشهد في القيام، ففي المسألة وجهان في البطلان عند التعمد، والجبران بالسجود عند السهو.
1010- فهذه طريقة مشهورة للأئمة، ثم إنا نستتمها ونخوض بعد نجازها في طريقة أخرى.
قال العلماء: القَوْمةُ عن الركوع قصيرة، لا تطويل فيها، إلا القومة التي شُرع القنوت فيها، وكذلك القَوْمةُ عن الركوع في صلاة التسبيح مطولة بالتسبيح، وقد صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام، والركوع، والسجود، والقعود، والتشهد، كل ذلك طويل. والقعود بين السجدتين مختلف فيه، فالذي ذهب إليه الجمهور، وهو اختيار ابن سريج أنه من الأركان الطويلة، بخلاف القيام عن الركوع، وقال الشيخ أبو علي: هو عندي كالقيام عن الركوع؛ فإن الظاهر أنه مشروع للفصل بين السجدتين، كما أن الاعتدال عن الركوع مشروع للفصل. وهذا الذي ذكره في شرح التلخيص، وهو منقاس حسن، وظاهر قول الأئمة يخالفه.
فهذه طريقة ظاهرة سردناها على وجهها، ومغزاها ربط الجبران في حالة السهو بالبطلان في حالة العمد، وفاقاً، وخلافاً، في النفي والإثبات جميعاًً.
1011- وذكر بعض الأئمة مسلكاً آخر حسناً، وهو حقيقة الفصل عندي، فقال: من قرأ التشهد في قيامه، أو الفاتحة في تشهده عمداً، لم تبطل صلاته وجهاً واحداً، وفي اقتضاء ذلك سجود السهو عند السهو وجهان مشهوران، وقد ذكر بعض أئمتنا: أن من قرأ الفاتحة، أو بعضاً منها في قيامه من الركوع عمداً، لا تبطل صلاته أيضاً.
1012- والآن ازدحمت المسائل واختلاف الطرق، فالوجه ذكر ما قيل، ثم اختتام الفصل بترجمة تضبط الطرق.
فأقول أولاً: المصير إلى بطلان الصلاة على من تعمد، فقرأ التشهد في القيام، أو الفاتحة في التشهد بعيدٌ عن القانون، وسبيل الكلام أن نقول: قد قدمنا أن من قرأ الفاتحة مرتين قصداً في القيام، لم تبطل صلاته، وعُدَّ مصير أبي الوليد النيسابوري في ذلك إلى البطلان من هفواته، وعندي أن المصير إلى بطلان الصلاة بسبب قراءة التشهد على وجه التعمد في القيام، أو القراءة في القعود، قريب من مذهب أبي الوليد في الفاتحة؛ فإن قراءة الفاتحة ركنٌ، فإذا زيدت وأُعيدت، لم يجعلها الأئمة كزيادة ركوع أو سجود.
وأما ما حكيته من أن تطويل القيام عن الركوع لا يُبطل الصلاة عند بعض الأصحاب، فالنقل فيه صحيح، ولكن القول فيه يتعلق بترك الموالاة في الصلاة، وهذا أوان بيانه، فأقول:
1013- ظاهر المذهب أن تطويل الاعتدال عن الركوع غيرُ سائغ؛ فإنه لو ساغ، لم يكن لمصير الأصحاب إلى أن الموالاة شرط في الصلاة معنى؛ فإن الأركان الطويلة إذا كانت تقبل التطويل من غير رعاية ضبطٍ في ذلك وحدّ، فلا يستقر في رعاية الموالاة كلامٌ، إلا في الاعتدال عن الركوع، وكان السرّ فيه أنه غير مقصود في نفسه، وأن الغرض منه-وإن كان فرضاً- الفصلُ بين الركوع والسجود، فينبغي ألا يطول الفصل فيما لا يقصد به إلا الفصل، فإن تطويلَه تركٌ لوِلاء الأركان في الصلاة. فمن قال: تطويلة لا يبطل الصلاة أصلاً، فلا يبقى عنده للوِلاء في الصلاة معنى.
والجلسة بين السجدتين عدها الأكثرون من الأركان المقصودة، فهي مطولة إذن، وقال الشيخ أبو علي: هي كالاعتدال من الركوع.
1014- وقد قدمنا خلافاً في تطويل الاعتدال عن الركوع من غير نقل ركنٍ إليه، ونحن الآن نزيد طريقة أخرى، صح عندنا النقل فيها، فحاصل القول أن في تطويل قَوْمة الاعتدال عن الركوع أوجه: قال قائلون: عمد التطويل مبطل إلا في محل القنوت، وصلاة التسبيح؛ فإنه تَرْكٌ للوِلاء، والموالاة لابد منها في الصلاة، والتطويل المجرّد عند هذا القائل من المبطلات.
وقال آخرون: التعمد بالتطويل المجرد لا يبطل، حتى ينضمَّ إليه نقلُ ركن إليه، وهذ لست أعرف له وجهاً سديداً منقحاً كما أحب.
وقال القفال فيما نقل بعضهم عنه: إن قنت في غير موضعه عامداً في اعتداله، بطلت صلاته، فإن طوّل بذكرٍ آخر، ولم يقصد به القنوت، لم تبطل صلاتُه، فصار ذلك طريقة أخرى.
وقال طوائف من محققينا: لا تبطل صلاتُه بتطويل الاعتدال على أي وجهٍ فُرض، وهذا وإن أمكن توجيهه، ففيه رفْع معنى الموالاة في أركان الصلاة، كما تقدم.
فهذه طرق مختلفة.
1015- ومن تمام القول في الموالاة أن بعض أصحاب القفال حكى عنه أن من طول السكوت وهو منفرد أو إمام في ركن طويل، بطلت صلاته إذا تعمد، وهذا يختص به إن صح النقل فيه، وهو غريب، فإن أمكن توجيهه؛ فإنه خروج عن هيئة المصلين، فكان كالأفعال الكثيرة المتوالية، ويمكن أن يقال أيضاً، هو في حكم ترك الموالاة؛ فإن الصلاة مبناها على تواصل القراءة، والأذكار والدعوات، فَلْيَتَأمل الناظر اختلاف الطرق.
1016- وأنا أقول: من ربط الأمر بالسجود بتقدير البطلان عند العمد، فقد طرد قياساً، وإن كان فيه من البعد ما وصفته، من أن المصير إلى بطلان الصلاة بقراءة التشهد في القيام فيه بعض البعد، ومن قال: لا تبطل الصلاة بذلك وجهاً واحداً، وفي سجود السهو وجهان، فقد يقول: لا تبطل الصلاة بالقراءة في الاعتدال من الركوع، فكأن هذا القائل نحا في السجود نحواً آخر، وهو السرّ الموعود.
فقال: التشهد الأول وإن لم يكن ركناً، ولم يكن تعمد تركه مبطلاً للصلاة، ففي تركه سجود السهو، فلا يبعد أن يكون في المنهتات ما ينزل تركه منزلة الإتيان بالتشهد في المأمورات.
وحاصل القول يرجع عند هذا القائل إلى أمرِ بديع، وهو أن المصلي مأمور بالتصوّن والتحفظ، وإحضار الفكر والذهن، حتى لا يتكلم ولا يفعل فعلاً كثيراً، والأمر في ذلك مؤكد عليه حسب تأكد الأمر بالتشهد، وإن سها وتكلم، فالساهي على الجملة معذور غير مكلف في حالة اطّراده بسهوه، ولكنه يؤمر بالسجود، لتركه التحفظ عن الغفلات بإدامة الذكر، فكأنَّ كلَّ سجوب منوطٌ بترك أمر مؤكد غير محتوم، فالأمر بالتشهد وما في معناه من الأبعاض، والأمر بالتحفظ إذا ظهر تركه والهجوم على منهي عنه من هذا القبيل.
فلينعم الناظر نظرَه في ذلك، وليعلم أن المعتمد عند هذا القائل تركُ ما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً؛ فإنّ ترك التشهد الأول يغير النظمَ الظاهر المألوف في الصلاة، كذلك تركُ التحفظ حتى يؤدي إلى تطويل ركن، أو نقل ركن مما يغير النظمَ الواضح، والشعارَ البيّن فتعلق به على الوفاق والخلاف السجود.
وأما ترك تسبيح الركوع والسجود، وتكبيرات الانتقالات، والجهرِ في الجهري، والإسرارِ في السري، فلا تبلغ هذه الأشياء مبلغ تغيير الشعار الظاهر، والنظم المألوف
وقد خالف أبو حنيفة في بعض ما ذكرناه، فأثبت السجود في الجهر بالقراءة في الصلاة السرية، وفي الإسرار بها في الصلاة الجهرية، وسبب مصيره إلى ذلك تغيير الشعار.
1017- وقال أبو حنيفة: على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد السجود، وكنت أود أن يصير إلى ذلك صائر من أصحابنا، من جهة أن التكبيرات الزائدة في صلاة العيد قريبة الشبه بالقنوت في الصلاة المختصة بالقنوت، ولكن قد ينقدح في ذلك فرق لا بأس به، وهو أن التكبير في يوم العيد من شعار اليوم، ولذلك نستحبه في الطرق والمساجد، وفي أثناء الخطبة، وفي الصلاة، فكأن التكبيرات ليست من خصائص الصلاة بخلاف القنوت. ثم في السجود لترك القنوت آثارٌ عن الصحابة ذكر المزني بعضها.
1018- ثم نقول: إن صار أصحابنا إلى ربط سجود السهو ببعض السنن المؤكدة، فالذي ذكروه لا يبعد، مع مصيرهم إلى أن سجود السهو سنة، فلا يبعد أن يُجبرَ مسنون بمسنون، وأما أبو حنيفة، فقد علق سجود السهو بسنة، ثم أوجب سجود السهو، وإيجاب الجبران في مقابلة ترك المسنون بعيد عن التحصيل.
وقد انتهى تفصيل المذهب فيما يقتضي سجود السهو على اختلاف الطرق وتباين المسالك، فإن شذ عن الضبط شيء، تداركناه برسم فروع وفصول إن شاء الله تعالى.
فرع:
1019- إذا رفع المصلي رأسه عن السجدة الثانية في الركعة الأولى، فظن أنها الثانية، فقعد ليتشهد، فالذي ذكره الأئمة: أنه إن افتتح التشهد، أو طول هذه الجلسة، سجد للسهو.
قال الصيدلاني: المقتضي للسجود أحد الأمرين: إمّا الأخذ في التشهد، وإما تطويل القعود، ولم أر في ذلك خلافاً، وكأن التشهد في غير موضعه في تغيير هيئة الصلاة ينزل منزلة ترك التشهد المشروع المسنون في أوانه، وجلسةُ الاستراحة لا تطول وفاقاً، وليس فيه من التردد ما حكيناه في الجلسة بين السجدتين.
ثم من قال من أئمتنا: من طوَّل الاعتدال عن الركوع قصداً، أو قنت فيه عمداً، بطلت صلاته، فلابد وأن يقول: إذا تشهد في جلسة الاستراحة قصداً أو طولها، كان الحكم في بطلان الصلاة عند التعمد، كالحكم في تطويل الاعتدال عن الركوع.
فرع:
1020- نقل الشيخ أبو علي في شرح التلخيص عن ابن سريج أنه قال: من جلس عن قيام في الركعة الأخيرة، فسها، وظن أنه قد سجد، فتشهد، ثم تذكر، فلا شك أنه لا يعتد بالتشهد، وأنه يسجد ويتشهد مرة أخرى، ثم يسجد للسهو، فإنا نأمر من طوَّل جلسة الاستراحة، أو تشهد فيها بالسجود، وذلك الجلوس مشروع على الجملة، فأما الجلوس عن القيام، فغير مشروع، وإذا تشهد فيه قبل السجود الركن سجد للسهو.
1021- وقال: لو سجد في الركعة الأخيرة سجدة واحدة، واعتدل جالساً، وظن أنه فرغ من السجدتين وتشهد، ثم تذكر، فيسجد السجدة الثانية، ويعيد التشهد، لا محالة؛ رعايةً للترتيب، ولا يسجد للسهو؛ فإن الجلسة بين السجدتين طويلة، وهي محل الذكر، فلم يطوّل ركناً قصيراً، ولم يأت بجلوس في غير موضعه، والتشهد الذي أتى به بمثابة ذكرٍ آخر من الأذكار يأتي به.
فقال أبو علي: يحتمل أن أقول: الجلسة بين السجدتين قصيرة، وهي للفصل كالاعتدال عن الركوع، وهذا قد مضى ذكره، ثم قال: إن سلّمنا أنها طويلة، فقد أتى فيها بالتشهد، وهو على الجملة ركن أتى به في غير أوانه، وقد ذكرنا خلافاً ظاهراً للأصحاب فيمن نقل ركناً إلى ركن طويل، كالذي يتشهد في قيامه، أو يقرأ في قعوده، وهل يسجد للسهو؟ والذي ذكره الشيخ أبو علي حسن بالغٌ جارٍ في قاعدة المذهب.
1022- وأنا الآن أذكر شيئاًً لابد من التنبيه له، فأقول: الركوع لا يعهد في الصلاة إلا ركناً، فلا جرم نقول: من زاد ركوعاً قصداً، بطلت صلاته، وكذلك القيام لا يكون إلا ركناً، فلو زاد قياماً قصداً، بطلت صلاته، فأما الجلوس، ففي الصلاة جلوس مشروع، وهو الجلوس للتشهد، وجلسة الاستراحة بين السجدتين، فلو جلس المصلي لمَّا انتهى إلى السجود من القيام جلسةً خفيفة، وسجد منها، لم تبطل صلاته؛ فإنه ليس آتياً بما لا يعهد إلا ركناً، وهو في نفسه ليس في حد الفعل الكثير أيضاً. ولكن لو طال الجلوس أو ابتدأ التشهد، فقد أتى بما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً، فنأمره بسجود السهو.
فإن قيل: في الصلاة سجود ليس بركن وهو سجود التلاوة، وسجود السهو؟ قلنا: هما يقعان لعارض يعرض، فكأنهما ليسا من الصلاة، والجلسة المستحبة تقع من نفس الصلاة، وهذا بين.
ولو كان قائماً، فجلس، ثم قام عمداً، بطلت صلاته، لا لعين الجلوس، ولكن لأنه قطع القيام ثم عاد إليه، فكان آتياً بقَوْمَتين. فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.
فرع:
1023- ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن القاعد للتشهد لو قرأ سورةً أخرى سوى الفاتحة، كما لو قرأ الفاتحة. وهذا الذي ذكره متجه حسن، من جهة أن المعتبر تغيير الشعار الظاهر في الصلاة، ولكن ينقدح على مذاهب طوائفَ خلافُ ذلك، من جهة أن هذا ليس نقلَ ركن من محله إلى غيره.
فصل:
1024- قد ضبطنا فيما تقدم طرقَ الأصحاب فيما يتعلق به سجود السهو تفصيلاً وتعليلاً، ومضمون هذا الفصل الآن شيئان:
أحدهما: لو شك هل سها أم لا كيف يكون حكمه؟
والثاني: أنه لو استيقن السهوَ، وشك في سجود السهو فبماذا يؤمر؟
1025- أما الشك في السهو، فقد قال الأئمة: السهو ينقسم إلى ترك مأمورٍ، وارتكاب منهي، أما المأمورات، وهي الأبعاض، فإن شك هل ترك شيئاًً منها، فالأصل أنه لم يأت به، فيسجد للسهو.
وأما المنهيات، فإن شك في ارتكاب شيء منها، فقد أجمع أئمتنا أنه لا يسجد، كالذي شك هل سلم أو تكلم في صلاته، فلا يسجد، والأصل أنه لم يأت بذلك المنهي، فالمتبع إذاً في الأصلين بناء الأمر على أنه لم يأت بما شك في الإتيان به.
قال العراقيون: من شك في الإتيان بمنهي، فلا سجود عليه إلا في مسألة واحدة، وهي أنه لو شك المصلي في أعداد ركعات الصلاة، فلم يدرِ أثلاثاً صلّى، أم أربعاً؟ وبنى على المستيقن، فإنه يسجد. وسبب السجود أنه شك هل زاد في صلاته، والزيادة منهي عنها، وقد شك هل أتى بها أم لا، ومع ذلك أجمع الأئمة على أنه مأمور بالسجود، ونطق به الخبر.
وذكر الشيخ أبو علي: أن السجود في حق من شك وبنى على المستيقن معلل بأن الركعة التي أتى بها إن كنت زائدة، فقد زاد ساهياً، وإن كانت رابعة، فقد أتى بها وهو على التردد فيها، فوهى بهذا السبب قصدُه في إقامة الفرض، فهذا هو المقتضي للسجود.
ثم يتفرع على ما ذكرناه في ذلك:
فرع:
1026- وهو أنه لو بنى على الأقل، وقام إلى ركعة يجوز أن تكون خامسة، فلما انتهى إلى آخر صلاته، تبين أنها كانت رابعة قطعاً، فالذي قطع به الشيخ أبو علي أنه يسجد للسهو. وهو مستقيم على طريقه؛ فإنه قد أدى الركعة الرابعة وهو متردد في فرضيتها.
وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة؛ فإنه لو سجد، لكان ذلك السجود على مقابلة خَطْرة محضة تحقق زوالها، وكان يقول: الوجه في الأمر بالسجود في قاعدة المسألة الخبرُ الصحيح، ولا يستقيم ذلك على وجه من المعنى، ثم الحديث ورد فيه إذا دام الشك، ولم يزُل، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر.
نعم، لو استيقن أنه زاد ركعةَّ فَي آخر صلاته، فالأمر بالسجود في هذه الصورة مترتب على أصل مجمع عليه مقطوع به؛ فإنه زاد في صلاته أركاناً ناسياً، وهذا مما يقتضي السجود.
فهذا كله فيه إذا شك هل سها أم لا.
1027- فأما إذا استيقن السهو، وشك قبل السلام، فلم يدر أسجد للسهو، أم لا، فَلْيَسْجد؛ فإن سجود السهو مشكوك فيه، والأصل عدمه، فيتعين الإتيان به، وكذلك لو شك، فلم يدر أسجد سجدةً أو سجدتين، فيأخذ بأنه سجد سجدة واحدة، ويأتي بسجدة أخرى.
ثم أجمع الأئمة قاطبة في أنه بهذا السبب الذي جرى، وهو بناؤه على الأقل وإتيانه بسجده أخرى لا نأمره بسجدتي السهو ابتداءً، وإن كان قياس البناء على الأقل في ركعات الصلاة يوجب أن يسجد هاهنا؛ فإنه يجوز أن تكون السجدة التي أتى بها أو السجدتان جرتا على حكم الزيادة، وأنه قبلهما سجد سجدتين، وحكى الأئمة الوفاق في ذلك من المذاهب كلها.
وفي هذه المسألة جرت مفاوضة بين الكسائي وأبي يوسف، فإن الكسائي قال: من تبحر في صنعةٍ يهتدي إلى سائر الصنائع، فقال أبو يوسف: فأنت متبحر في العربية، فما قولك فيمن شك هل سجد للسهو أم لا؟ فأَخَذَ بأنه لم يسجد، فسجد، هل يلزمه السجود لجواز أن السجدة التي أتى بها بعد التردد زائدة؟ فقال الكسائي: لا يسجد، فسأله العلّة، فقال: لأن المصغَّر لا يصغر. فذكر العلة في صيغة مسألة من العربية، وذلك لأن التصغير لو صغر، لصغر تصغير التصغير، ثم هذا يتسلسل إلى غير نهاية.
كذلك الذي سجد للسهو في السجود، فلو أمرناه بالسجود لذلك، فقد يسهو على النحو الأول، فلو سجد السجدتين الأخريين اللتين أمرناه بهما، فيحتاج إلى أن يسجد مرة أخرى، ثم يفرض مثل هذه الوسوسة أبداً. فعُدَّ هذا من محاسن آثار فطنة الكسائي؛ فإنه أصاب أولاً في الجواب، ثم طبق مفصل التعليل، وأتى بمسألة من العربية وفاء بما كان ادعاه أولاً، من أن التهدّي في صنعةٍ مرشدٌ إلى غيرها.
وتمام الحكاية أنه سأله في المجلس بعد إصابته في المسألة الأولى عن الطلاق قبل النكاح في المسألة المشهورة، فقال: لا يقع ويلغو، فسأله العلة، فقال: لا يسبق السيلُ المطر، فاستعمل مثلاً سائراً، وأشار إلى معتمد من يُبطل تعليق الطلاق قبل النكاح؛ فإنه يقول: الطلاق تصرُّفٌ في النكاح فترتب عليه، فتقديره سابقاً غير مستقيم.
فرع:
1028- إذا اعتقد المصلِّي أنه سها، وما كان عَقْدُه متردداً، فسجد سجدتي السهو، ثم تبين له قبل أن يسلم أنه ما كان ساهياً، فقد قال بعض المحققين: يسجد الآن قبل أن يسلم سجدتين، من جهة أن سجدتي السهو المعتقد أوّلاً عينُ السهو، فقد تحقق قبل أن يتحلل عن صلاته أنه زاد في الصلاة سجدتين، وهذا يقتضي السجود.
وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة، وهذا فيه فقه، فلا يمتنع أن يقال: سجدتا سهوه سهوٌ من وجه وجبرانٌ من وجه، فهما يجبران أنفسهما، كما يجبران كل سهو يقع، وهذا كإيجابنا شاة في أربعين شاة، فإذا أخرجها المكلّف فهي تطهر النصاب، والنصاب أربعون، فقد طهرت ما بقى، وطهرت نفسها، وهذا يعتضد بما تمهد من أن السجود يتداخل وإن تعدد السهو.
فرع:
1029- إذا سها وسجد سجدتي السهو، فلما رفع رأسه عن السجدة الثانية، تكلم ناسياً؛ فإنه لا يسجد لمكان هذا السهو، وقد اتفق الأئمة عليه، وهو يقرب من صورة التسلسل من جهة أنه يتوقع أن يسهو مرة أخرى لو أمرناه تقديراً بالسجود ثانياً، والتحقيق فيه أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد السهو عند العلماء، ولذلك أخرنا سجدتي السهو إلى آخر الصلاة، حتى يتقدم عليه كل ما يفرض من سهو، ولما كان السجود يتعدد بتعدد تلاوة الآيات التي تقتضي سجودَ التلاوة، استعقبَ كلُّ تلاوة سجدتَها.
فإذا تمهد ذلك، فإن سجد للسهو المتقدم، ثم سها قبل السلام، فيقدر كان هذا السهو تقدم على السجود؛ إذ مبنى الباب على أن السجود لا يتعدد بتعدد السهو، ولهذا أخرنا سجود السهو، فإن اتفق وقوع سهو بعد السجود، فذاك في حكم المجبور بالسجود المقدم.
1030- وذهب ابن أبي ليلى. إلى أنه يقتضي كلُّ سهوٍ سجدتين، وهو مع ذلك لا يُعقب كلَّ سهو سجدتين، بل يؤخر السجدات، وقد احتج بما رواه عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل سهو سجدتان»، واعتمد الشافعي حديث ذي اليدين، فإنه تعدَّدَ السهو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سلم ناسياً، ثم استدبر القبلة، ثم تكلم، ثم سجد سجدتين.
وأما حديث ثوبان، فقد رأى الشافعي فيه محملاً، وذلك أنه أراد عليه السلام أن يبين أن سجود السهو يتعلق بأصناف من السهو بعضها تَرْك، وبعضها فعل، فلا يختص ثبوت السجود بصنف، وهو بمثابة قول القائل: لكل ذنب توبة، أي لا يختص وجوب التوبة بنوع دون نوع.
والذي ذكره الشافعي تأويل محتمل، وحديث ذي اليدين لا يقبل وجهاً من التأويل في الغرض الذي نحن فيه.
1031- ثم قال صاحب التلخيص: لا تتعدد سجدتا السهو إلا في مسائل منها: أن القوم إذا كانوا يصلون الجمعة، فسَهَوْا، وسجدوا، ثم بان لهم أن الوقت خارج، فإنهم يتمون الصلاة ظُهْراً ويسجدون مرة أخرى.
وكذلك المسافر إذا سها في صلاة مقصورة وسجد، ثم بان له قبل التحلل أن السفينة قد انتهت إلى دار الإقامة؛ فإنه يتمم الصلاة، ويعيد السجود.
والسبب في هذا الجنس أن الصلاة إذا زادت، وانقلبت عن العدد المقدر فيها، فالسجود يقع في وسط الصلاة غيرَ معتد به، فإذا بطل، فلابد من الإتيان بالسجود في آخر الصلاة، وإن كان يصح الاستثناء لو كان يعتد بالسجودين، ولا يبطُل واحد منهما.
ومما استثناه أن المسبوق إذا سجد مع إمامه، وكان سها إمامه، فإذا قام وتدارك ما فاته، فإنه يسجد في آخر صلاة نفسه.
وهذا سببهُ أن ما أتى به مع إمامه كان لأجل المتابعة، وسجود السهو ما يأتي به في آخر الصلاة.
فصل:
1032- مضمون هذا الفصل أمران: أحدهما: تفصيل القول في أن المقتدي إذا سها وراء الإمام كيف يكون حكمه؟
والثاني: أن الإمام إذا سها، فكيف يجري الأمر في حق المأموم؟
فأما المأموم إذا سها في حال كونه مقتدياً، فالإمام يحمل عنه سهوه، ولا يسجد الإمام بسهو المأموم، ولا يسجد المأموم بسهو نفسه وهذا متفق عليه.
ولو كان مسبوقاً، فسها مع إمامه، ثم انفرد بتدارك ما فاته، فلا يسجد في آخر صلاة نفسه؛ فإن السهو الذي جرى مع الإمام محطوط، لا حكم له.
1033- ثم ذكر صاحب التلخيص جوامع القول فيما يتحمله الإمام عن المأموم، فعدّ من جملتها سجودَ السهو، كما ذكرناه.
ومما يتحمله: سجود التلاوة، فإن المأموم لو قرأ آية فيها سجود التلاوة، لم يسجد.
ويتحمل عن المقتدي قراءةَ السورة، ودعاء القنوت على التفصيل المذكور في صفة الصلاة.
ويتحمل عن المسبوق الذي أدركه في الركوع قراءةَ الفاتحة، واللُّبث في القيام، ولا يتحمل أصل القيام، فلو أوقع المسبوق التكبيرة في الركوع، لم تنعقد صلاته.
ومما عده الجهرُ؛ فإن المأموم لا يجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية، ثم قال: لا يجهر المأموم بشيء إلا بالتأمين، وفيه الخلاف المذكور فيما سبق.
ومما يتحمله القعدة الأولى في صورةٍ، وهو أن يدرك المسبوق الإمامَ في الركعة الثانية، فإذا قعد الإمام للتشهد، فالمأموم يتابعه، وهو غير محسوب للمقتدي في صلاته، ثم يقوم الإمام إلى الثالثة، فإذا فرغ، لم يقعد، وهذا أوان قعود المأموم لو كان يتمكن، لكنه لا يجلس، فجلوسه في أوانه متحمّلٌ محطوطٌ عنه.
فرع:
1034- المسبوق إذا اقتدى، فلما سلم إمامُه، سلم هذا المقتدي غالطاً، فتذكر، بنى على صلاته، وسجد للسهو؛ فإن سهوه-وهو سلامه- وقع بعد سلام إمامه، فقد سها منفرداً، فكان عليه أن يسجد.
1035- ولو كان مسبوقاً بركعة، فجلس إمامه للتشهد الأخير، فسمع المسبوق صوتاً، وظن أن إمامه قد تحلل عن صلاته، فبنى الأمر عليه، وقام، وتدارك الركعة، ثم جلس، والإمام بعدُ في الصلاة، فقد قال الأئمة: لا يعتد له بهذه الركعة، فإنه أتى بها مع إمامه، وحكم القدوة متعلّق به، وما نوى الانفراد وقَطْع القدوة، ولكنه ظن أن القدوة زايلته، وما كان الأمر كما ظنه، ولا يتصور مع بقاء القدوة أن يحتسب بركعة للمقتدي، وهو في الصورة منفردٌ فيها- ولو أنه سها في هذه الركعة بأن تكلم ساهياً مثلاً، ثم بان بالأخرة ما بان، فذلك السهو محمول عنه، وهذه الركعة سهو كلها، ولا نأمره أن يسجد بسببها، لأن حكم القدوة باقٍ، ولو كانت المسألة بحالها، فعادَ والإمامُ بعدُ في الصلاة، فإذا سلّم الإمام، قام، وتدارك تلك الركعة، بعد تحلل الإمام، والذي جاء به غير محسوب.
1036- ولو ظن أن الإمام قد سلم، فقام على هذا الظن، ثم تبين في أثناء القيام أن الإمام لم يتحلل بالسلام، فإن آثر أن يرجع لما تبيّن، فهو الوجه، وإن بدا له أن يتمادى ويقصد الانفراد قبل تحلل الإمام، فهذا أولاً مبني على أن المقتدي إذا أراد الانفراد ببقية الصلاة، وقطْعَ القدوة، والإمام بعدُ في الصلاة، فهل له ذلك؟ فيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن منعنا ذلك، تعين على الذي تبين له حقيقةُ الأمر أن يرجع إلى حكم القدوة.
وإن جُوِّز له الانفرادُ وقطْعُ القدوة، فإذا قام ساهياً، كما تقدم، ثم بدا له أن يتمادى، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن نهوضه إلى القيام وقع غيرَ معتد به، فينبغي أن يعود، ثم يبتدىء انتهاضاً على بصيرة، ويقطع القدوة، إن أراد قطعها.
والثاني: أنه لا يلزمه ذلك؛ فإن الانتهاض إلى القيام في عينه ليس بمقصود، وإنما الغرضُ القيامُ نفسه، وما عداه من الأركان، وقد تمادى الآن فيه، فكان كما لو قصد ذلك عند ابتداء النهوض.
ولا شك أن هذا مفروض فيه إذا لم يكن قرأ في القيام، فإنه لو قرأ، ثم تبين له الأمر، فتلك القراءة لا يعتد بها؛ فإذا تمادى وشرعنا له ذلك، فيلزمه أن يقرأ مرة أخرى.
فهذا كله في سهو المأموم وتحمّل الإمام عنه.
1037- وأما تفصيل القول في سهو الإمام، فسنذكر تفصيل القول في المقتدي الذي ليس مسبوقاً، ثم نذكر حكم المسبوق.
فأما غير المسبوق، فنقول فيه: إذا سها إمامه سهواً يقتضي السجود، نُظر: فإن سجد الإمام، فعلى المقتدي أن يسجد متابعة له، فلو لم يسجد على قصد، بطلت صلاته، لمخالفته مع بقاء حكم القدوة.
فأما إذا لم يسجد إمامه، فالنص أن المقتدي يسجد ثم يسلم.
وقال المزني والبويطي: لا يسجد؛ فإنه ما سها هو في نفسه، وإنما كان يسجد متابعة للإمام. وقد ذهب إلى هذا بعضُ أئمتنا، وعبّر عن الخلاف بأن المقتدي يسجد لسجود الإمام أو يسجد لسهوه؟ فظاهر النص أنه يسجد لسهوه، ولما يلحق صلاتَه من حكم النقصان بسبب اقتدائه، والإمام قَدْ سها، ومذهب المزني والبويطي أنه يسجد لسجود الإمام، وهو مذهب بعض أصحابنا، وهو منقاس حسن، وإن كان ظاهر النص بخلافه.
فهذا إذا لم يكن المقتدي مسبوقاً.
1038- فأما إذا كان مسبوقاً، فإن سها الإمام بعد اقتدائه، فإن سجد، فظاهر المذهب أنَّ المقتدي المسبوق يسجد معه؛ رعاية للمتابعة.
وذكر الشيخ أبو بكر عن بعض الأصحاب أن المسبوق لا يسجد مع الإمام؛ فإن هذا ليس وقتَ السجود في حق المسبوق؛ إذ موضع سجود السهو آخر الصلاة، وهذا غريب، ولكن حكاه الصيدلاني.
فإذا جرينا على الأصح وهو أن يسجد، فلو سجد، ثم قام إلى استدراك ما فاته، فهل يسجد في آخر صلاته مرة أخرى؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه يسجد؛ لأن السجود الذي أتى به مع الإمام لم يكن في آخر صلاته، وإنما أتى به رعاية للمتابعة، فإذا انتهى إلى آخر صلاة نفسه، فليسجد الآن.
والثاني: أنه لا يسجد؛ فإنه قد أتى بحق المتابعة؛ إذ سجد مع الإمام، وليس هو الساهي في نفسه حتى يسجد.
فهذا إذا سها الإمام وسجد.
فأما إذا لم يسجد الإمام، فظاهر النص أن المسبوق يسجد في آخر صلاة نفسه.
وقال المزني والبويطي: لا يسجد، ووافقهما بعض الأصحاب كما تقدم.
ثم لا شك أن الإمام إذا لم يسجد، فالمسبوق لا يسجد في آخر صلاة الإمام، فإن هذا سجودٌ في غير موضعه، إذا نظرنا إلى نظم صلاة المسبوق، ولم يسجد الإمام حتى يتابعه. وإنما الخلاف في أنه هل يسجد في آخر صلاة نفسه؟.
وهذا كله فيه إذا كان المقتدي مسبوقاً، وقد سها إمامه بعد اقتدائه.
1039- فأما إذا كان سها الإمام قبل اقتدائه، فظاهر المذهب أنه يلحق المقتدى حكمُ السهو، ويكون كما لو سها بعد اقتدائه؛ فإن الصلاة واحدة.
ومنهم من قال: لا يلحقه حكم هذا السهو لأنه جرى وهو غير مقتدٍ، وهذا بعيد ضعيف، ولكن حكاه الصيدلاني على ضعفه، فإن قلنا: يلحقه حكم هذا السهو، فهو كما لو سها الإمام بعد اقتدائه، وقد سبق التفصيل فيه.
وإن قلنا لا يلحقه، فمما يتفرع عليه، أنه لو لم يسجد الإمام، فلا يسجد هو، وجهاً واحداً، وإن سجد الإمام، فالظاهر في التفريع أنه لا يسجد مع إمامه متابعاً، وقال بعض أصحابنا: يسجد معه متابعاً، ولكن لا يسجد في آخر صلاته.
هذا تفصيل القول في سهو الإمام في حق المقتدي المسبوق.
فرع:
1040- المسبوق إذا سها إمامه بعد اقتدائه وسجد، فسجد المقتدي متابعاً، وفرعنا على أن المسبوق يُعيد السجودَ في آخر صلاة نفسه، فلو تحلل الإمام واشتغل بقضاء ما فاته، فسها بعد انفراده سهواً يقتضي السجود، وقد كان لحقه من جهة الإمام سهو، فالمذهب أنه يكفيه عن الجهتين سجدتان؛ فإنَّ مبنى السجود على التداخل كما ذكرناه.
وذكر العراقيون وجهاً آخر، فقالوا: من أصحابنا من قال: يسجد أربع سجدات، سجدتين عما لحقه من جهة الإمام، وسجدتين عما وقع له لمّا انفرد، والسبب فيه اختلاف جهة السهو، وهو غير سديد، والوجه القطع بأنه يكفي سجدتان عن الجهتين جميعاًً.
فصل:
1041- سجدة الشكر مسنونة عندنا، ووقتها إذا فاجأت الإنسانَ نعمة كان لا يتوقعها، أو اندفعت عنه بليةٌ، من حيث لا يحتسب اندفاعَها، فمفاجأة النعمة دفعاً ونفعاً يقتضي سجودَ الشكر، وفيه أخبار مشهورة، والسجود على استمرار النعمة لا يستحب، وإذا رأى الإنسانُ صاحبَ بلاء، فهاله ما به، فحسنٌ أن يسجد، وقد روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نُغَاشِياً فسجد شكراً لله تعالى»، والنغاشي الناقص الخلق.
ثم قال الأئمة: إن رأى مبتلىً- معذوراً فيما به؛ فلا ينبغي أن يسجد بمرأى منه، فإنه قد يتداخله من ذلك غضاضة، وإن رأى فاسقاً مبتلىً بما يعانيه، فينبغي أن يسجد بحيث يراه، فعساه يرعوي عما يتعاطاه.
ثم لا يجوز أن يسجد في الصلاة شكراً، ولو سجد، بطلت صلاته، وإنما جازت سجدةُ التلاوة في الصلاة، لتعلق التلاوة بالصلاة.
1042- فالسجدات إذن عندنا أربعة أصناف: سجدةُ الصلاة، وسجدة التلاوة، وسجدة السهو، وسجدة الشكر.
وسجدة الشكر من جملتها لا تقام في الصلاة. وسجدة الصلاة من أركانها المختصة بها. وسجدة السهو مختصة بها أيضاً، وفي محلّها التفصيل المقدّم في صدر الباب. وسجدة التلاوة تقع في الصلاة وفي غيرها. وسجدة الشكر لا تقع في الصلاة.
ثم كيفية سجود الشكر في الأقل والأكثر بمثابة كيفية سجود التلاوة.
فرع:
1043- اختلف أئمتنا في أن سجود الشكر هل يقام على الراحلة إيماء، وماشياً كذلك؟ وهذا الاختلاف بمثابة الاختلاف في أن صلاة الجنازة هل تقام على الراحلة. وسبب الاختلاف في الموضعين جميعاًً أن الركن الأظهر في صلاة الجنازة القيام، فلو أقيمت على الراحلة، لسقط أظهرُ أركانها، كذلك السجدة الفردة إذا اكتفي فيها بالإيماء، كان ذلك في حكم الإسقاط، وذلك كله يشابه إقامة النافلة مضطجعاً إيماء في حالة القدرة، وسيأتي ذلك مشروحاً.
وسجدة التلاوة وإن جرت في صلاة النافلة المقامة على الراحلة، فإنها تقع إيماء؛ فإنها تتبع الصلاة، وليست مستقلة بنفسها، وكذلك سجود السهو، وإن أقيمت سجدة التلاوة في غير الصلاة إيماءً على الراحلة، فهي كسجود الشكر.
شكراً للدعوة اتفق مع إجابة الأستاذة دلال.
شكرا على الدعوة وأتفق مع الأستاذة دلال
اشكرك علي الدعوة الكريمة
أتفق في إجابتي مع السادة الزملاء
فقد أحسنوا وأبدعوااااااااااااا