أنشئ حسابًا أو سجّل الدخول للانضمام إلى مجتمعك المهني.
ومن روائع الأدب العربي قصة "الانتحار" لمصطفى صادق الرافعي
وفيها العديد من العبارات المفيدة
... فابحث عنها
وإن كنت لا أدري إن كانت القصّة فعلا نسبتها صحيحة إلى الإمام الشعبي أم لا
هذه القصّة تمثل مثالا عمليّا للرحمة في الإفتاء رغم أن المسألة واضحة --- ما حكم الانتحار ؟ --- كفر
هذه هي الفتوى ببساطة شديدة في كلمة واحدة
وقد أجاب الإمام الشعبي في القصّة إن صحّت نسبتها إليه بهذه الإجابة البسيطة ولكن في وسط صفحات كتبها الأديب امتلأ فيها قلبه بالرحمة وهو يحاول إقناع الشخص بأن يترك هذا الذنب بشتى الوسائل
"ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئناناً في النفس على زلازلها وكوارثها - لم يكن إيماناً، بل هو دعوى بالفكر أو باللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع أحدث في ثيابه من الخوف. . .! ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفراً بالله وتكذيباً لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي احدث في ثيابه!"
الفتوى لم تتغير والحكم لم يتغير ولكن الإبداع هنا في التربية وفي الحفاظ على مقاصد الشريعة (أي: الحفاظ على الدين وعلى النفس وعلى العقل وعلى العرض والنسل وعلى المال) والله أعلم
قصّة رائعة يرينا فيها الأديب مصطفى صادق الرافعي كيف يكون المفتي رحيما مربّيا حكيما رفيقا
نفس الحُكم لم يتغيّر ولكن الأسلوب التربوي الرائع
قصّة فريدة ورائعة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
حدث المسيب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يوماً في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي، وجماعة - أقبل فتى فجلس قريباً منا، وكان تلقاء وجهي؛ لا أمد نظري إلا انطلق في سمته ووقف عليه؛ وكنا نتحدث، فرأيته يتسمع إلى حديثنا؛ فلما تكلم سعيد، وكان خافت الصوت من علة به، وكنا نسميه الملة الصخابة - رأيت الفتى يتزحف قليلاً قليلا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيس نملتنا
وكان سعيد يقول: اجتزت أنا والشعبي أمس بعمران الخياط، فمازحه الشيخ فقال له: عندنا حب مكسور، تخيطه؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمغزل الذي يغزل الهواء لنصنع لك الخيط
قال مجاهد: هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتفق له؛ أخبرني إن رجلاً جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته؛ فقال الرجل: أيكما الشعبي. . .؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه. . .!
قال المسيب: وضحكنا جميعاً، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزناً وهماً، وكأنه لا يتسمع إلينا ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزع خواطره، فيتبدد اجتماعها على همه، بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته، يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعاً، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه
فقلت في نفسي: أمر أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدته وشبابه. ثم تحولت إليه وقلت: رأيتك يا بني مقبلاً علينا كالمنصرف عنا؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعاً؟
قال: إليك عني يا هذا. فأين مني الضحك وأنا على شفير القبر، وروح التراب مليء عيني في كل ما أرى. وكان حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميت حي؛ رجل في الدنيا ورجل في الآخرة!
قلت: فأعلمني ما بك يا بني؛ فلقد احتسبت ولداً لي كان في مثل سنك وشبابك ولم ارزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرقاً في لداته متوهماً أن وجوههم تجمعه بملامحه؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعاً وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أرى أحداً منهم إلا كان له ولقلبي حديث! فإن رأيته حزيناً مثلك تقطعت له من إشفاق ورحمة، وطالعني فتاي في مثل همه وحزنه وانكساره؛ فيعود قلبي كالعين التي غشاها الدمع، تحمل أثر الحزن ومعناه وسره، فبثني ما تجد يا بني، فلعل لي سبباً إلى كشف ضرك أو إسعافك بحاجتك؛ ولعلك تكون قد حزنت من أمر قريب المتناول هين المحاولة، لم يجعله عندك كبيراً أنه كبير، ولكن انك أنت صغير
قال الفتى: مهلاً يا عم، فإن ما نزل بنا مما تنقطع عنده الحيلة ولا تقاد فيه الوسائل، ولا علاج منه بالموت يأخذنا ويأخذه
قلت: يا بني، هذه كلمة ما احسب أحداً يقولها إلا من أخذ للقتل بجنايته ولم يعف أهل الدم، فهل جنيت أو جنى أبوك على أحد؟
قال: إن الأمر قريب من قريب، فإني تركت أبي الساعة مجمعاً على إزهاق نفسه، وقد اغلق عليه الدار واستوثق من الباب!
قال المسيب: فكأنما لدغتني حية بهذه الكلمة، وأكبرت أن يكون رجل مسلم يقتل نفسه؛ فتناهضت، ولكن الغلام أمسك بي وقال: إنه لا يزال حياً وسيقتل نفسه متى اظلم الليل وهدأت الرجل
قلت: الحمد لله، إن في النور عقلاً، ولكن ما الذي صار به إلى ما قلت، وكيف تركته لقدره وجئت؟
قال الفتى: إنه قال لي: يا ولدي ليس لك أب بعدي، فإن أردت اللحاق بي فارجع مع الليل لنسلم أنفسنا، وان آثرت الحياة فارجع مع الصبح لتسلمني إلى غاسلي!
قلت: أما من أنت إلا يكون أبوك قد أخرجك عنه لان عينك تمسك يده وترده عما يهم به، حتى إذا خلا وجهه منك ازهق نفسه؟
قال: لم أدعه حتى اقسم أن يحيا إلى الليل، وحتى أقسمت أن ارجع لأموت معه، فإن لم تمسكه يمينه أمسكه انتظاري، وقد فرغت الحياة منا فلم يبق إلا أن نفرغ منها؛ ومن كان فيما كنا فيه ثم انحدر إلى ما انحدرنا إليه، لم ير الناس من نفسه ضعة ولا استكانة؛ وإنما خرجت لأسأل هذا الإمام (الشعبي) وجهاً من الرأي فيمن يقتل نفسه إذا ضاقت عليه الدنيا، ونزلت به النازلات، وتعذر القوت، واشتد الضر، وتدلت به المسكنة إلى حضيضها، والجئ إلى أحوال دقته دق الرحى لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأي واحد في الدنيا: هو إنه مكذوب مزور على الدنيا.
قلت: يا بني. فإني أراك أديباً؛ فمن أبوك؟
قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومحق محاقه، وهو اليوم في احلك الليالي واشدها انطماساً، جهده الفقر، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل اخذ الموت امرأته فماتت هماً به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كل من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبت الأم ذهبت الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها؛ وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على إنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندنا قتل الحياة. .!
قلت: يا بني، فإنك والله لحكيم، وإني لأنفس بك على الموت؛ فكيف ردتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردك حياة أبيك؟
قال: لو بقى أبي حياً لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين اخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكر في الموت؛ فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو ليرحمه؛ أن عجز عن عدوه قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به.
قال المسيب ابن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلة يطمئن إليها أن يموت مسلماً إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره؛ فأشفقت أن اكسر نفسه إذا أنا حدثته أو أفتيته؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفتيا؛ وكان أمامنا (الشعبي) حكيما لحناً فطناً سقر بين أمير المؤمنين (عبد الملك) وعاهل الروم، فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله. وقلت: لعل الله يحدث به أمراً. فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفه عن نفسه. وقلت له: أما تدري انك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرورها أيضاً، وان الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا - ليس باحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟
يا بني، أن الزاهد يحسب أن قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كانت فيما انقطع في صحراء أو على راس جبل؛ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وأيم الله أن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً، لهو الخالي من الفضائل جميعاً!
يا بني، إن من الناس من يختاره الله فيكونون قمح هذه الإنسانية: ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها. وما أدراك أنت وأباك إلا من المختارين كأن في أعراقكما دم نبي يقتل أو يطلب!
قال المسيب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقت الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلمنا وسلم، ثم بدرت فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفت عليه المصائب وتوالت النكبات وتوارت الأسقام. . . ثم اقتصصت ما قال ابنه حرفاً حرفاً، ثم قلت: وانه الآن موشك أن يزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا؛ وقد (هداه الله إليك) فجاء يسألك: أيموت مسلماً من ألجئ واكره واضطر واستضاق واختل، فتحسى سماً فهلك، أو توجأ بجديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حز في يده بسكين فما رقأ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه، أو تردى من شاهق فطاح. . .؟
وأدرك الشيخ معنى قولي: (هداه الله إليك)، ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المترادفة على القتل وما استقصيت من وجوهه؛ فعلم إني لم أسأله الفتيا والنص، ولكني سألته الحكمة والسياسة؛ فقال: هذا والله رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس، وما أنا الساعة بمعزل عن همه، فنذهب نكلمه والله المستعان
ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما استفز بنفسه فأزهقها، وساتسور الحائط وأتدلى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده
ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، والى الحياة وما به قوة؛ وصغر إليه نفسه إنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحا تتقعقع في جلدها، فهي تهم في لحظة أن تثب وتندلق
وسلم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله، فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي!
ومد الشيخ عينه فرأى كوة مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودع الهواء يتكلم معنا كلامه. فقمت إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيخ للرجل: أصغ إلي، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك: أعلمت أن رجلا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حياً ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتاً، فبقى لا حياً ولا ميتاً ثلاثين سنة. . . .؟
قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذه الحال ثلاثين سنة؟
قال الشيخ: صحح الكلام واسأل: أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول: (جاء ما لا صبر عليه)! وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مال غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟
أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنةً على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظام ممددة على سريرها؟ إنه أمامنا (عمران ابن حصين الخزاعي) الذي أرسله عمر ابن الخطاب يفقه أهل البصرة، وتولى قضائها وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين. ولقد دخلت عليه أنا وأخوه (العلاء) فرأيناه مثبتاً على سرير الجريد كأنما شد بالحبال وما شد إلا بانتهاك عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه؛ فبكى أخوه، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة! قال لا تبك؛ فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي. ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛ إذ كانت قوة روحه قوةً في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر: (إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل!)
ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له: (امتحني) وكيف تراك إذا كنت بطلاً من الأبطال مع قائد الجيش، أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: (امتحني وارم بي حيث شئت!) وإذا رمى بك فرجعت مثخناً بالجراح ونالك البتر والتشويه - أتراها أوصافاً لمصائبك، أم ثناء على شجاعتك؟
ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئناناً في النفس على زلازلها وكوارثها - لم يكن إيماناً، بل هو دعوى بالفكر أو باللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع أحدث في ثيابه من الخوف. . .! ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفراً بالله وتكذيباً لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي احدث في ثيابه!
والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرضى من القلب، ثقة بوعده ورجاة لما عنده، ومن هذين يكون الاطمئنان. وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلاً ثانياً مع العقل. فإذا ابتلى المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل، وصار من أمره في مثل الجنون - برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول. ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة، فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أو غيرهما، فيقتل أقواهما الأضعف، ويخرج الأعز منهما الأذل
فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى، أو تحويله عن معناها بجعل البلاء ثواباً وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرةً بكل ما فيها إلى الموت، وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم، وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا وما الإنسان في هذا الكون، وما خيره وشره، وما سخطه ورضاه؟ إن كل ذلك إلا كما ترى قبضةً من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها. . . .!
قال الشيخ: وانظر، أما تبتلى الشجرة الخضراء في بعض أوقاتها بمثل ما يبتلى به الإنسان، غير أن لها عقلاً روحانياً مستقراً في داخلها يمسك الحياة عليها ويتربص حالا غير الحال؛ ومهما يكن من أمر ظاهرها وبلائه فالسعادة كلها في داخلها، ولها دائماً ربيع على قدرها حتى في قر الشتاء
فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن ينشئ للنفس غريزة متصرفةً في كل غرائزها، تكمل شيئاً وتنقص من شيء، وتوجه إلى ناحية وتصرف عن ناحية؛ وبهذه الغريزة تسمو الروح فتكون اكبر من مصائبها واكبر من لذاتها جميعاً وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضا بالقدر خيره وشره، وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا، فتضع في النكبات معاني شريفةً تنزع منها شرها وأذاها للنفس، وليست المصيبة شيئاً لولا تأذي النفس بها. وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل، وتغيرت طبيعتها، فيعود الفقر باباً من الزهد، والمرض نوعاً من الجهاد، والخيبة طريقاً من الصبر، والحزن وجهاً من الرجاء، وهلم جراً
والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وجدا مع الفقر بطلت عزة المال واصبح حجراً من الحجر، والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغنى فيه آلات التطريب كلها. وفي النفس حياة ما حولها، فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا، وإذا عفت أذلتها الدنيا!
قال المسيب: ثم سكت الشيخ قليلاً، وكنت أرى الرجل كأنما يغتسل بكلامه، وقد اشرق وجهه وتنضر وانقلب إلى روحه التي كان منصرفاً عنها، فعادت مصائبه تضغط روحاً لينةً كما تضغط اليد على الماء، وأيقن إن النكبة كلها هي أن ينظر الإنسان إلى الحياة بعين شهواته فينكب أول ما ينكب في صبره ويقينه
ثم قال الشيخ، ولقد رأيت بعيني رأسي معجزة (العقل الروحاني) وكيف يصنع: رأيت عروة ابن الزبير وهو شيخ كبير - عند الوليد بن عبد الملك، وقد وقعت في رجله الأكلة، فأشاروا عليه بقطعها لا تفسد جسده كله، فدعى له من يقطعها، فلما جاء قال له نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألماً. فقال عروة: لا استعين بحرام الله على ما أرجو من عافية! قال: فنسقيك المرقد. فقال عروة: ما احب أن اسلب عضواً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فاحتسبه
ثم دخل رجال أنكرهم عروة، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه الصبر. قال أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي!
قال الشيخ: فانظر أيها الضعيف الذي يريد قتل نفسه كيف صنع عروة، وكيف استقبل البلاء، وكيف صبر، وكيف احتمل. إنه انصرف بحسه إلى النفس فانبسطت روحه عليه، وأخذ يكبر ويهلل ليبقى مع روحه وحدها، وخرج من دنيا ظاهره إلى دنيا باطنه، وغمرت حواسه وأعصابه بالنور الإلهي من معنى التكبير والتهليل، فقطع القاطع كعبه بالسكين وهو لا يلتفت، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار ونشرها وعروة في التكبير والتهليل. ثم جيء بالزيت مغلياً في مغارف الحديد فحسم به مكان القطع، فغشى على عروة ساعة ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولم يسمع منه في كل هذه الآلام الماحقة أنة ولا آهة، ولم يقل قبلها ولا بعدها ولا بين ذلك: (جاء ما لا صبر عليه؟)
قال المسيب: وارهف بأس الرجل الضعيف وقوى جأشه وانبعثت فيه الروح إلى عمر جديد، ونشأ له اليقين من عقله الروحاني وعرف إن ما لا يمكن أن يدرك، يمكن أن يترك
وجاء هذا العقل الروحاني فمر بالمنشار على اليأس الذي كان في نفسه فقطعه، فما راعنا إلا أن وثب الرجل قائماً يقول: الله اكبر من الدنيا، الله اكبر من الدنيا!
ثم أكب على يد الشيخ وهو يقول: صدقت؛ (إن كل ذلك إلا كما ترى قبضةً من التراب تتكبر، وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها)
ماذا يصنع الإنسان إذا غلط في مسألة من مسائل الدنيا إلا أن يتحرى الصواب ويجتهد في الرجوع إليه ويصبر على ما يناله في ذلك؟ وماذا يصنع الإنسان إذا غلطت فيه مسألة. . . . . . . . .؟
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
شكرا للدعوة أستاذة أميرة.
قصة الانتحار من كتاب: وحي القلم
في سلسلة مقالاتٍ عَنْوَنَ لها بـ( انتحار )
يتكلم فيها على لسان الإمام الشعبي عن قصص أفرادٍ حاولوا الانتحار
إما لشدة الفقر،
أو لوسواسٍ في العقل ,
أو للتعلق بامرأة ,
و غيرها ,
و يرد عليهم بلسانهم ,
مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله وقد أورد الأستاذ القصة كاملة. وهذه بعض المقتطفات الجميلة - ,
أرجو أن ينفعنا الله و إياكم بها ,
بسم الله نبدأ :
إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانا في النفس على زلازلها وكوارثها، لم يكن إيمانا،
بل هو دعوى بالفكر أو اللسان لا يعدوهما،
كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الرَّوْعُ أحدث في ثيابه من الخوف.
ومن ثمَّ كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفراً بالله وتكذيبا لإيمانه،
وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه
فإنه ما خذلك إلا وضعك نفسك بإزاء الله تعارضه أو تجاريه في قدرته، فيكلك إلى هذه النفس،
فتنتهي بك إلى العجز، وينتهي العجز بك إلى السخط ،
ومتى كنت عاجزا ساخطًا، محصورا في نفسك موكولا إلى قدرتك ،
كنت كالأسد الجائع في القفر، إذا ظن أن قوته تتناول خلق الفريسة ؛
فيدعو ذلك إلى نفسك اليأس والانزعاج والكآبة؛
وأمثالها من هذه المهلكات تقدح في قلبك الشك في الله،
وتثبت في روعك شر الحياة،
وتهدي إلى خاطرك حماقات العقل،
وتقرر عندك عجز الإرادة؛
فتنتهي من كل ذلك ميتا قد أزهقتك نفسك قبل أن تزهقها !
ولو كنت بدل إيمانك بنفسك قد آمنت بالله حق الإيمان، لسلطك الله على نفسك ولم يسلطها عليك؛
فإذا رَمَتْك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها، رميتها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه؛
وإذا جاءتك الشهوات من ناحية الرغبة المقبلة، جئتها من ناحية الزهد المنصرف،
وإذا ساورتك كبرياء الدنيا أذللتها بكبرياء الآخرة.
وبهذا تنقلب الأحزان والآلام ضروبا من فرح الفوز والانتصار على النفس وشهواتها،
وكانت فنونا من الخذلان والهم، وتعود موضع فخر ومباهاة، وكانت أسباب خزي وانكسار.
وأنّ الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا،
ليس بأحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟
يا بني: إن الزاهد يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله،
ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله.
وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كان فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟
أيزعم أحدٌ أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟
وايم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعًا، لهو الخالي من الفضائل جميعًا.
وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مالٌ , غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟
إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه،
إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع،
ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به؛
وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛
إذ كانت قوة روحهِ قوة في كل موضع،
فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم
فمن آمن بالله فكأنما قال له: "امتحنِّي!"
وكيف تراك إذا كنت بطلا من الأبطال مع قائد الجيش,
أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: "امتحني وارم بي حيث شئت!"
وإذا رمى بك فرجعت مثخنا بالجراح ونالك البتر والتشويه،
أتراها أوصافا لمصائبك, أم ثناء على شجاعتك؟
والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح،
وإعطاء الله الرضى من القلب, ثقةً بوعده ورجاةً لما عنده،
ومن هذين يكون الاطمئنان،
وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلا ثانيا مع العقل،
فإذا ابتلي المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل،
وصار من أمره في مثل الجنون,
برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول.
ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة،
فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أوغيرهما فيقتل أقواهما الأضعف،
ويخرج الأعز منهما
فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى،
أو تحويله عن معناهُ بِجَعْلِ البلاء ثوابا وحسنات،
أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرة بكل ما فيها إلى الموت؛
وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا،
يترك النفس راضية مرضية،
تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم.
وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا.
وما الإنسان في هذا الكون؟
وما خيره وشره؟
وما سخطه ورضاه؟
إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها!
ليست المصيبة شيئا لولا تأذي النفس بها،
وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل،
وتغيرت طبيعتها فيعود الفقر بابا من الزهد،
والمرض نوعا من الجهاد،
والخيبة طريقا من الصبر،
والحزن وجها من الرجاء، وهلم جرا.
فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن ينشئ للنفس غريزة متصرفة في كل غرائزها،
تكمل شيئا وتنقص من شيء، وتوجه إلى ناحية وتصرف عن ناحية؛
وبهذه الغريزة تسمو الروح فتكون أكبر من مصائبها وأكبر من لذاتها جميعا.
وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضى بالقدر خيره وشره,
وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا،
فتضع في النكبات معانٍ شريفة تنزع منها شرها وأذاها للنفس؛
وليست المصيبة شيئا لولا تأذي النفس بها،
وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل،
وتغيرت طبيعتها فيعود الفقر بابا من الزهد،
والمرض نوعا من الجهاد،
والخيبة طريقا من الصبر،
والحزن وجها من الرجاء، وهلم جرا.
والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها،
وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج،
فإن وُجدا مع الفقر بطلت عزة المال وأصبح حجرا من الحجر؛
والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغني فيه آلات التطريب كلها.
وفي النفس حياة ما حولها،
فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا، وإذا ضعفت أذلتها الدنيا!.
وعزيمة الإيمان إذا هي قَوِيت حصرت البلاء في مقداره،
فإذا حصرته لم تزل تنقص من معانيه شيئا شيئا،
فإذا ضعفت هذه العزيمة جاء البلاء غامرًا متفشيا يجاوز مقداره بما يصحبه من الخوف والروع،
فلا تزال معانيه تزيد شيئا فشيئا بما فيه وبما ليس فيه.
وللإيمان ضوء في النفس ينير ما حولها فتراه على حقيقته الفانية وشيكا أن يزول؛
فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء،
فتتوهمها النفس أوهاما متباينة على أحوالها المختلفة؛
كما يرى الأعمى بوهمه،
لا عينه مع الأشياء تكون في طبيعتها،
ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها.
" فإذا قمت إلى وضوئك ....
فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على أن في هذا الماء سرا روحانيا من أسرار الغيب والحياة ,
وأنّهُ رمزٌ للسماء عندك ،
وأنك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدت على أطرافك ؛
ثم سَمِّ الله تعالى مفيضا اسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معا ،
ثم تمثل أنك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا
وأنك آخذٌ فيهما من السماء لوجهك وأعضائك؛
وقرر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئا إلا مسحة سماوية تسبغها على كل أطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك؛
وأنك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماويا لا أرضيا ,
فإذا أنت استشعرت هذا وعملت عليه وصار عادةً لك ،
فإن الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء،
كلما اغتممت أو تسخطت أو غشيك حزن أو عرض لك وسواس،
فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلت الحياة وغسلت الساعة التي أنت فيها من الحياة ,
وترى الماء تحسبه هدوءا ليناً لِينَ الرضى ،
وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعا .
يقول الله في الحديث القدسي -عن الذي قتل نفسه- :
"بدرني عبدي بنفسه , فحرمت عليه الجنة"
أي بدرني وتألَّه فجعل نفسه إلهَ نفسه، فقبضها وتوفاها، فكان ظالمًا.
بدرني وتأله في آخر أنفاسه لحظة ينقلب إلي، فكان مع ظلمه مغرورًا أحمق!
بدرني وتأله حين ضاق, فهور نفسه في الموت من عجزه أن يمسكها في الحياة، فكان عاجزًا مع ظلمه وغروره وحمقه!
بدرني وتأله على جهله بسر الحياة وحكمتها، فلم يستح هذا المخلوق الظالم المغرور في حمقه وعجزه وجهله، ولم يستح أن يجيئني في صورة إله.
بدرني وتأله، فطبع نفسه طابعها الأبدي من غيٍّ وتمردٍ وسفاهة، وأرسلها إليّ مقتولة يردها علي.
بدرني وتأله كأنما يقول: إن له نصف الأمر ولي النصف: أنا أحييت وهو أمات!
بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة!
ومم يقتل الإنسان نفسه؟
أما أن الموت آت لا ريب فيه ولا مقصر لِحيٍّ عنه،
وهو الخيبة الكبرى تلقى على هذه الحياة؛
فما ضرر الخيبة الصغيرة في أمر من أمور الحياة؟
إن المرء لا يقتل نفسه من نجاحٍ بل من خيبة،
فإن كانت الخيبة من مال فهي الفقر أو الحاجة،
وإن كانت من عافية فهي المرض أو الاختلال،
وإن كانت من عزة فهي الذل أو البؤس،
وإن كانت مما سوى ذلك -كالنساء وغيرهن- فهي العجز عن الشهوة أو التخيل الفاسد،
وليس يَخِيب الإنسان إلا خيبة عقلٍ أو إرادة،
وإلا فالفقر و الحاجة و المرض و الاختلال و الذل و البؤس، و العجز عن الشهوة و فساد التخيل،
كل ذلك موجود في الناس، يحمله أهله راضين به صابرين عليه،
وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها.
ويا عجبا! إن العميان هم بالطبيعة أكثر الناس ضحكا وابتسامًا وعبثًا وسخرية،
أفتريدون أن تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك؟
ليست الخيبة هي الشر،
بل الشر كله في العقل إذا تبلَّد فجَمُدَ على حالةٍ واحدة من الطمع الخائب،
أو في الإرادة إذا وهنت فبقيت متعلقة بما لم يوجد.
أفلا ترون أنه حين لا يبالي العقل ولا الإرادة لا يبقى للخيبة معنى ولا أثر في النفس،
ولا يخيب الإنسان حينئذ، بل تخيب الخيبة نفسها؟
لهذا يأبى الإسلام على أهله الترف العقلي والتخيل الفاسد،
ويشتد كل الشدة في أمر الإرادة، فلا يترخص في شيء يتعلق بها،
ولا يزال ينميها بأعمال يومية تشد منها لتكون رقيبة على العقل حارسة له،
فإن للعقل أمراضًا كثيرة يقيس فيها درجات من الطيش حتى يبلغ الجنون أحيانًا؛
فكانت الإرادة عقلا للعقل؛
هي لينه إذ تصلب،
وهي حركته إذا تبلد،
وهي حلمه إذ طاش،
وهي رضاه إذا سخط
الإرادة شيء بين الروح والعقل فهي بين وجودين؛
ولهذا يكون بها الإنسان بين وجودين أيضا،
فيستطيع أن يعيش وهو في الدنيا كالمنفصل عنها،
إذ يكون في وجوده الأقوى وجود روحه، وأكبر همه نجاحه في هذا الوجود.
وهذا النجاح لا يأتي من المال، ولا تحققه العافية، ولا تيسره الشهوات، ولا يسنيه التخيل الفاسد؛ ولا يكون من متاع الغرور، ولا مما عمره خمسون سنة أو مائة سنة،
بل يأتي مما عمره الخلود ومما هو باق أبدًا في معانيه من الخير والحق والصلاح؛
فههنا يعين المرض بالصبر عليه مما لا تعين الصحة،
ويفيد الفقر بحقائقه ما لا تفيد الثروة؛
وهنا يكون العقل الإنساني عاملا أكثر مما هو متخيل،
وقانعا أكثر مما هو طامع؛
ههنا لا موضع لغلبة الشهوة، ولا كبرياء النفس، ولا حب الذات؛
وهذه الثلاث هي جالبة الشقاء على الإنسان حتى في أحوال السعادة,
وبدونها يكون الإنسان هانئا حتى في أحوال الشقاء.
بالإرادة المؤمنة القوية ينصرف ذكاء المؤمن إلى حقائق العالم وصلاح النفس بها،
وبغير هذه الإرادة ينصرف الذكاء إلى خيال الإنسان وفساد الإنسان.
وإذا انصرف الذكاء إلى حقائق الدنيا كان العقل سهلا مرنا مطواعا،
واستحال عليه أن يفهم فكرة قتل النفس أو يُقِرَّها،
فإن هذه الفكرة الخبيثة لا تستطرق إلى العقل إلا إذا تحجر وانحصر في غرض واحد قد خاب وخابت فيه الإرادة ففرغت الدنيا عنده.
ولو أن امرأ تم عزمه على قتل نفسه ثم صابر الدنيا أيامًا ... لانفسخ عزمه أو رَكَّ ؛
إذ يلين العقل في هذه المدة نوعا ما،
ويجعل الصبر بينه وبين المصيبة مسافة ما،
فتتغير حالة النفس هَوْناً ما.
فالصبر كالتروح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى واحد مقفل من جوانبه ,
ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفه بالتراب لفاً وسد عليه منافذ الهواء،
وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة؛
فهو على اليقين أنها حالة ساعة طارئة من الزمن لا حالة الزمن؛
وأن الهواء الذي جاء بهذا الهم هو الذي يذهب بهذا الهم.
وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها،
فالحياة كذلك هي أمر آخر غير شقائها.
قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].
ففي رجاء الله واليوم الآخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية،
فتمر همومها حوله ولا تصدمه،
إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأنّ لا سلطان لها عليه،
وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت،
فلا يجيء الهم قوة تستحق ضعفا،
بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملا ظاهرا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة, والأسوة وحدها هي علم الحياة.
وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينا،
وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية.
وفي رجاء الله واليوم الآخر يبطل أكبر أسباب الشر في الناس،
وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرا لا يبعث إلا الحقد والسخط،
فينظر المؤمن حينئذ إلى ما في الناس من الخبر والصلاح والإيمان والحق والفضيلة,
وهذه بطبيعتها لا تبعث إلا السرور والغبطة،
ومن جعلها في تفكيره أبطل أكثر الدنيا من تفكيره،
وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم،
كالرجل الفقير العالم إذا قدم على الغني العالم؛
جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه.
وفي رجاء الله واليوم الآخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يصبح منه غاديا على الحشر والحساب؛
فهو متصل بالخلود غير معنيٍّ إلا بأسبابه،
وبهذا تكون أمراضه وآلامه، ومصائبه ليست مكاره من الدنيا،
بل هي تلك المكاره التي حفت الجنة بها؛
ولا يضره الحرمان لأنه قريب الزوال،
ولا يغره المتاع لأنه قريب الزوال أيضا.
وفي رجاء الله واليوم الآخر يسود الإنسان على نفسه،
ومن كان سيد نفسه كان سيد ما حولها يصرفه بحكمه،
ومن كان عبد نفسه صرفه بحكمه .
فهي قوله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }
[الفتح: 29].
إنَّ أكثر ما يضيق به الإنسان يكون من قِبَل من حوله ممن يعايشهم ويتصل بهم
لا من قبل نفسه،
فإذا قام اجتماع أمة على أنهم { رحماء بينهم }
تقررت العظمة النفسية للجميع على السواء؛
ومن كانوا كذلك لم يحقروا الفقير بفقره,
ولم يعظموا الغني لغناه،
وإنما يحقرون ويعظمون لصفات سامية أو حقيرة.
وبين هؤلاء يكون الفقير الصابر أعظم قدرا من الغني الشاكر،
وإعظام الناس لفضيلة الفقير هو الذي يجعل فقره عند نفسه شيئا ذا قيمة في الإنسانية.
ومتى تصححت آراء الجماعة في هذه المعاني المؤلمة للناس بطل ألمها واستحالت معانيها،
وصار لا يبلى معنى من معاني الحياة في إنسان إلا وضع إيمانه معنى جديدًا في مكانه،
وتصبح الفضيلة وحدها غاية النفس في الجميع،
وبذلك يصبر الفرد على مصائبه، لا بقوته وحده، ولكن بجميع القوى .
إنََّ الإنسان ونفسه في هذه الحياة كالذي أعطي طفلا نزقا طياشا عارما متمردًا ليؤدبه ويُحْكم تربيته وتقويمه
فيثبت بذلك أنه أستاذ، فيعطَى أجر صبره وعمله،
ثم يضيق الأستاذ بالطفل ساعة فيقتله،
فإنما النكبة مذهب من مذاهب القدر في التعليم,
وقد يكون ابتداء المصيبة في رجل هو ابتداء الحكمة فيه لنفسه أو لغيره.
وعَقْلُ الهَمِّ عقلٌ عظيم،
فلو قد أُريد استخراج علمٍ يعلمه الناس من اللذات والنعم؛
لكان من شرح هذا العلم من الحمير والبغال والدواب ما لا يكون مثله ولا قرابه في العقلاء، ولا تبلغه القوى الآدمية في أهلها؛
يبد أنه لو أريد علم من البؤس والألم والحاجة لما وجد شرحه إلا في الناس،
ثم لا يكون الخاص منه إلا في الخاصة منهم.
لعن الله هذا الاضطراب الذي يبتلى الخائف به.
إننا نحسبه اضطرابا وما هو إلا اختلاط الحقائق على النفس وذهاب بعضها في بعض،
وتضرب الشر في الخير والخير في الشر حتى لا يبين جنس من جنس،
ولا يعرف حد من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة.
وبهذا يكون الزمن على المُبتلَى كالماء الذي جَمُدَ لا يتحرك ولا يتساير.
فيلوح الشر وكأنه دائما لا يزال في أوله ينذر بالأهوال،
وقد يكون هوله انتهى أو يوشك.
وكنت أرى يأسي قد اعترى كل شيء، فامتد إلى آخر الكون وإلى آخر الزمن؛
فلما سكن ما بي إذا هو قد كان يأسُ يومٍ أو أيامٍ , في مكانٍ من الأمكنة ؛
أما ما وراء هذه الأيام وما خلف هذا المكان،
فذلك حكمهُ حكم الشمس التي تطلع وتغيب على الدنيا لإحيائها،
وحكم الماء الذي تهمي السماء به ليسقي الأرض وما عليها،
وحكم استمرار هذه الأجرام السماوية في مدارها ولا تمسكها ولا تزنها إلا قوة خالقها.
أين أثر الإنسان الدنيء الحقير في كل ذلك؟ وهل الحياة إلا بكل ذلك ؟
وما الذي في يد الإنسان العاجز من هذا النظام كله فيسوغ له أن يقول في حادثة من حوادثه إن الخير لا يبتدئ وإن الشر لا ينتهي.
تعتري المصائبُ هذا الإنسانَ لتمحو من نفسه الخسة والدناءة ،
وتكسر الشر والكبرياء ،
وتفثأ الحدة والطيش ؛
فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشا و حِدَّة، وكبرياء وشرًا، ودناءة وخسة،
فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك.
المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة.
ما أشبه النكبة بالبيضة تحسب سجنا لما فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه،
وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية،
ثم تنقف البيضة فيخرج خلقا آخر.
وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته،
عمله أن يتكون فيها،
وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل.
إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به،
فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة،
فهو أبدًا محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفها يستقبل بها الدنيا جديدة على نفسه بين الفترة والفترة،
ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن, وأن تقام الصلاة مرارًا في اليوم،
فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى.
فإن الله -تعالى- قد يجعل ما يحبه هو فيما نكره نحن؛
وليس للأقدار لغة فتجري على ألفاظنا؛
وقد نسمي النازلة تنزل بنا خسارًا وهي ربح،
أو نقول مصيبة جاءت لتبديل الحياة،
ولا تكون إلا طريقة تيسرت لتبديل الفك.
وكأين من حادثة لا تصيب امرأ في نفسه إلا لتقع بها الحرب بين هذه النفس وبين غرائزها،
فتكون أعمال الطبيعة المعادية أسبابا في أعمال العقل المنتصر
وكثير من هذا البلاء الذي يقضي على الإنسان، لا يكون إلا وسائل من القدر يرد بها الإنسانَ إلى عالم فكره الخاص به؛
فإن هذه الدنيا عالمٌ واحد لكل من فيها،
ولكن دائرة الفكر والنفس هي لصاحبها عالمه وحده.
والسعيد من قَرَّ في عالمه هذا واستطاع أن يحكم فيه كالملك في مملكته،
نافذ الأمر في صغيرتها وكبيرتها؛
والشقي من لا يزال ضائعا بين عوالم الناس،
ينظر إلى هذا الغني، وإلى ذاك المجدود وإلى ذلك الموفق؛
وهو في كل هذا كالأجنبي في غير بلده وغير قومه وغير أهله،
إذا كل شيء يصبح أجنبيا عن الإنسان ما دام هو أجنبيا عن نفسه.
وما قط تمكن إنسان من نفسه و أحاط بها و نفذ فيها تصرفه؛
إلا كان راضيا عن كل شيء إذ يتصل من كل شيء بجهته السامية لا غيرها،
حتى في اتصاله بأعدائه من الناس وأعدائه من الأشياء؛
فما يرى هؤلاء ولا هؤلاء إلا امتحانا لفضائله وإثباتها لها.
وقد يكن عدوك في بعض الأمور عينا لك في رؤية نفسك؛
ففيه بركة هذه الحاسة ونعمتها.
ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا صلى الله عليه وسلم،
وإسلام المقتدين به من أصحابه,
لأدركنا سر الكمال الإنساني،
وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي،
ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال،
المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره؛
فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه.
والمؤمن كالغصن؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه،
وإن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه.
إن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص،
وأن للجمال وجهين:
أحدهما الذي اسمه القبح ؛ لا يعرف هذا إلا من هذا؛
وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة،
وقالت عن هذه أنها هي البصلة !
وإنما وجه الإنسان في قطوبه أو تهلله هو وجهه ووجه دنياه تعبس أو تبتسم .
وانحصرت نفسي فيها،
فرجعت معها أشد غباوة من الجاهل ينظر إلى مد بصره من الأفق فيحكم أن ههنا نهاية العالم،
وما ههنا إلا آخر بصره وأول جهله.
وانفلت مني زمام روحي، وانكسر ميزان إرادتي، واختل استواء فكري،
فأصبحت إنسانا من النقائض المتعادية أجمع اليقين والشك فيه،
والحب والبغض له، والأمل والخيبة منه، والرغبة والعزوف عنها،
وفي أقل من هذا يخطف العقل، ويتدله من .
"ليس الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها،
ولا هو شيء يُدرك،
ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه".
ولكن بلاء الإنسان إنه حين يطوحه البؤس والشقاء وراء الإنسانية،
لا ينظر لغير الناس، فيزيده ذلك بؤسا وحسرة،
ويمحق في نفسه ما بقي من الصبر, ويقلب رضاه غيظا، وقناعته سخطا،
ويبتليه كل ذلك بالفكرة المهلكة أعجزها أن تهلك أحدًا فلا تجد من تدمره غير صاحبها؛
فإذا هي وجدت مساغا إلى الناس فأهلكت وعاثت وأفسدت،
فجعلت صاحبها إما لصا أو قاتلا أو مجرما، أي ذلك تيسر.
وفي الأرض كفاية كل ما عليها ومن عليها ، ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس؛
وما دامت هذه الدنيا قائمة على التغيير والتبديل وتحول شيء إلى شيء،
فهذا الظبي الذي يأكله الأسد لا تعرف الأرض أنه قد أُكل ولا أنه اُفترس ومُزق،
بل هو عندها قد تحول قوةً في شيء آخر ومضى؛
أما عند الناس فذلك خطب طويل في حكاية أوهام من الخوف والوجل،
كما لو اخترعت قصة خرافية تحكيها عن أسد قد زرع لحما,
فتعهده فأنبته فحصده فأكله،
فذهب الزرع يحتج على آكله،
وجعل يشكو ويقول: ليس لهذا زرعتني أنت،
وليس لهذا خرجت أنا تحت الشمس،
وليس من أجل هذا طلعت الشمس علي وعليك!
والإنسان يرى بعينيه هذا التغيير واقعا في الإنسانية عامتها وفي الأشياء جميعها؛
فإذا وقع فيه هو ضج وسخط ،
كأن له حقا ليس لأحد غيره،
وهذا هو العجيب في قصة بني آدم،
فلا يزال فيها على الأرض كلمات من الجنة لا تقال هنا ولا تفهم هنا .
بل محل الاعتراض بها حين يكون الإنسان خالدًا لا يقع فيه التغيير والتبدليل.
ومن هذا كان خيال اللذة في الأرض هو دائما باعث الحماقة الإنسانية.