Inscrivez-vous ou connectez-vous pour rejoindre votre communauté professionnelle.
قصة التتار عجيبة حقًّا، عجيبة بكل المقاييس، ولولا أنها موثقة في كل المصادر، وبصورة تكاد تكون متطابقة في كثير من الأحيان لقلنا إنها خيال، أو أغرب من الخيال.
القصة عجيبة لأن التغيير فيها من ضعف إلى قوة، أو من قوة إلى ضعف لم يأخذ إلا وقتًا يسيرًا جدًّا، فما هي إلا أعوام قليلة جدًّا حتى يعز الله دولة ويذل أخرى، ثم تمر أعوام أخرى قليلة فيذل الله الأولى ويعز الأخرى!! {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
والقصة عجيبة أيضًا للمبالغة الشديدة في الأحداث؛ المبالغة في الأرقام في كل حدث، المبالغة في أعداد القتلى، وفي أعداد الجيوش، وفي أعداد المدن المنهارة، وفي مساحات البلاد المحتلة، وفي أعداد الخيانات وأسلوبها. كما أن القصة عجيبة لشدة التطابق بينها وبين واقعنا الآن.
وقد أراد الله أن يوضح لنا حقيقة ثبات السنن, وتكرار التاريخ, فجعل الأحداث التي تمر بها أمتنا في وقتنا هذا تكاد تكون متطابقة مع الأحداث التي جرت على سطح الأرض في القرن السابع الهجري, ولو بحثنا في التاريخ فسنجد تطابقًا مع أحداث أخرى كثيرة.
ظهرت قوة التتار في أوائل القرن السابع الهجري، وحتى نفهم الظروف التي نشأت فيها هذه القوة لا بد من إلقاء نظرة على واقع الأرض في ذلك الزمان، وسنجد أن القوى الموجودة كانت متمثلة في فئتين رئيسيتين:
أمَّا الفئة الأولى فهي أمة الإسلام، وقد كانت تملأ مساحة ضخمة من العالم في ذلك الوقت؛ فقد كانت حدود البلاد الإسلامية تبدأ من غرب الصين وتمتد عبر آسيا وإفريقيا لتصل إلى غرب أوربا حيث بلاد الأندلس، وهي مساحة شاسعة للغاية، لكن وضع العالم الإسلامي -للأسف الشديد- كان مؤلمًا جدًّا؛ فقد كانت هناك فُرقة شديدة في العالم الإسلامي، وتدهور كبير في الحالة السياسية لمعظم الأقطار الإسلامية. والغريب أن هذا الوضع المؤسف كان بعد سنوات قليلة من أواخر القرن السادس الهجري، حيث كانت أمة الإسلام قوية منتصرة متحدة رائدة، ولكن هذه سُنَّة ماضية {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، فقد كان هناك الخلافة العباسية التي أصابها الوهن لابتعاد الحكام عن تطبيق الشرع، وانغماسهم في اللهو، وقعودهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى.
ونستطيع أن تقول: إن الخلافة العباسية كانت (صورة خلافة) وليست خلافة حقيقية؛ فقد كانت مصر والشام والحجاز واليمن في أوائل القرن السابع الهجري في أيدي الأيوبيين أحفاد صلاح الدين الأيوبي، وكانت بلاد المغرب والأندلس تحت إمرة (دولة الموحدين)، وقد كانت فيما سبق دولة قوية مترامية الأطراف تحكم مساحة تمتدُّ من ليبيا شرقًا إلى المغرب غربًا، ومن الأندلس شمالاً إلى وسط إفريقيا جنوبًا. وكانت الدولة الخوارزمية دولة مترامية الأطراف، وكانت تضم معظم البلاد الإسلامية في قارة آسيا، تمتد حدودها من غرب الصين شرقًا إلى أجزاء كبيرة من إيران غربًا، وكانت هذه الدولة على خلاف كبير مع الخلافة العباسية، وكانت بينهما مكائد ومؤامرات متعددة.
بينما كانت الهند تحت سلطان الغوريين في ذلك الوقت، وكانت الحروب بينهم وبين دولة خوارزم كثيرة ومتكررة.
وكانت أجزاء من فارس تحت سلطان الخوارزميين، وكانت الأجزاء الغربية منها -والملاصقة للخلافة
العباسية- تحت سيطرة طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من طوائف الشيعة كانت شديدة الخبث، ولها مخالفات كثيرة في العقيدة، جعلت كثيرًا من العلماء يخرجونهم من الإسلام تمامًا.
وأخيرًا كانت منطقة الأناضول تُحكم بسلاجقة الروم، وأصول السلاجقة ترجع إلى الأتراك، وكان لهم في السابق تاريخٌ عظيم وجهاد كبير، وذلك أيام القائد السلجوقي المسلم الفذ (ألب أرسلان) رحمه الله، ولكن للأسف فإن الأحفاد الذين كانوا يحكمون هذه المنطقة الحساسة والخطيرة والملاصقة للإمبراطورية البيزنطية كانوا على درجة شنيعة من الضعف أدَّت إلى مواقف مؤسفة من الذل والهوان.
أمَّا القوة الثانية في الأرض في أوائل القرن السابع الهجري فقد كانت قوة الصليبيين، وكان المركز الرئيسي لهم في غرب أوربا، حيث لهم هناك أكثر من معقل، وقد انشغلوا بحروب مستمرة مع المسلمين، فكان نصارى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا يقومون بالحملات الصليبية المتتالية على بلاد الشام ومصر، وكان نصارى إسبانيا والبرتغال -وأيضًا فرنسا- في حروب مستمرة مع المسلمين في الأندلس. وإضافةً إلى هذا التجمُّع الصليبي الضخم في غرب أوربا كانت هناك تجمعات صليبية أخرى في العالم، وكانت هذه التجمعات أيضًا على درجة عالية من الحقد على الأمة الإسلامية، وكانت الحروب بينها وبين العالم الإسلامي على أشدها.
وبينما كان هذا هو حال الأرض في ذلك الوقت، ظهرت قوة جديدة ناشئة قلبت الموازين، وغيَّرت من خريطة العالم، وفرضت نفسها كقوة ثالثة في الأرض، هذه القوة هي قوة دولة التتار أو المغول!!
من التتار؟
ظهرت دولة التتار في سنة 603هـ/ 1206م تقريبًا، وكان ظهورها الأول في (منغوليا) في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو جنكيزخان.
و(جنكيزخان) كلمة تعني: قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم، أو القوي، بحسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية، واسمه الأصلي (تيموجين)[1]. وكان رجلاً سفّاكًا للدماء، وكان أيضًا قائدًا عسكريًّا شديد البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتسعت مملكته حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخوارزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالاً إلى بحر الصين جنوبًا[2]. أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: الصين، ومنغوليا، وفيتنام، وكوريا، وتايلاند، وأجزاء من سيبيريا، إلى جانب مملكة لاوس، وميانمار، ونيبال، وبوتان!!
ويطلق اسم التتار -وكذلك المغول- على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين في صحراء (جوبي)، وإن كان التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة. ومن التتار جاءت قبائل أخرى مثل قبيلة المغول، وقبائل الترك والسلاجقة، وغيرها. وعندما سيطر المغول -الذين منهم جنكيزخان- على هذه المنطقة أطلق اسم (المغول) على هذه القبائل كلها.
وكان للتتار ديانةٌ عجيبة، هي خليط من أديان مختلفة، فقد جمع جنكيزخان بعض الشرائع من الإسلام، والبعض من المسيحية، والبعض من البوذية، وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج لهم في النهاية كتابًا جعله كالدستور للتتار، وسمَّى هذا الكتاب بـ (الياسة) أو (الياسك) أو (الياسق) [3].
وكانت حروب التتار تتميز بسرعة انتشار رهيبة، ونظام محكم، وأعداد هائلة من البشر، وتحمُّل الظروف القاسية، والقيادة العسكرية البارعة، كما كانت تتميز كذلك بأنهم بلا قلب!! [4] فكانت حروبهم حروب تخريب غير طبيعية، فكان من السهل جدًّا أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا فدمَّرُوا كل المدينة، وقتلوا سكانها جميعًا، لا يفرِّقون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مدني ومحارب!! وتميزت حروبهم أيضًا برفض قبول الآخر، والرغبة في تطبيق مبدأ (القطب الواحد).
ولم يكن للتتار عهد، فلا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق؛ فكانت هذه صفة أصيلة
لازمة لهم، لم يتخلَّوا عنها في أي مرحلة من مراحل دولتهم منذ قيامها، وإلى أن سقطت.
والمهم في كل ذلك أن التتار بدءوا يفكرون جديًّا في غزو بلاد المسلمين، وبدءوا يخطِّطون لإسقاط الخلافة العباسية، ودخول بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية.
الهجمة التترية الأولى
فكر جنكيزخان في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لذا فكَّر جنكيزخان في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، التي تُعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية، وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية مهمَّة مثل: أفغانستان، وأوزبكستان، والتركمنستان، وكازاخستان، وطاجكستان، وباكستان، وأجزاء من إيران، وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة أورجندة (في تركمنستان حاليًّا).
وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم (محمد بن خوارزم شاه) على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يحترمون اتفاقياتهم؛ لذا لا مانع من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة، وهي سُنَّة في أهل الباطل.. {وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].
وبدأ الإعصار التتري الرهيب على بلاد المسلمين!!
بدأت بالهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه؛ جاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له (محمد بن خوارزم شاه) بجيشه أيضًا، والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون (وهو يعرف الآن بنهر سرداريا، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة)، وقُتِل من الفريقين خلق كثير، لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك، ثم تحاجز الفريقان، وانسحب (محمد بن خوارزم شاه) بجيشه؛ لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة، وذهب ليحصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة، وخاصةً العاصمة أورجندة. كان هذا اللقاء الدامي في عام 616هـ/ 1219م.
انشغل (محمد بن خوارزم شاه) في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن كان هناك خطأٌ واضحٌ في إعداده، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة أورجندة إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية! فلقد اهتم محمد بن خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون في تأمين شعبه، وحافظ جدًّا على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه.
جهَّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع في اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدُّمه إلى مدينة بُخارَى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة 616هـ/ 1219م، ثم طلب أهلها الأمان من جنكيزخان قبل التسليم؛ فأعطاهم إياه.
وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعةً لهم؛ وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة.
وفعلاً بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك!! وحاصر القلعة عشرة أيام، ثم فتحها قسرًا، ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا!! ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون[5].
وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، يقول ابن كثير: "فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله ، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا معهنَّ الفواحش بحضرة أهليهن"[6]. وهكذا هلكت بُخارَى في سنة 616هـ/ 1219م!!
ولكن كانت هذه أولى صفحات القصة، كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار، فقد دخلت سنة 617هـ/ 1220م، وفيها ارتكب التتار من الفظائع ما تعجز الأقلام عن وصفه؛ فقد كرروا ما فعلوه في بخارى في عدة مدن إسلامية عظيمة أخرى مثل سمرقند، وقد استقر فيها السفاح جنكيزخان بعدما أعجبته، وقرَّر أن يقضي على محمد بن خوارزم شاه ليتفرَّغ لتحقيق مخططه في احتلال بلاد الخلافة الإسلامية كافة؛ فأرسل كتيبة مكوَّنة من عشرين ألف جندي -وهي قوة صغيرة بالنسبة لجيوش التتار- تطارده في كل مكان، وأخذ خوارزم شاه يفرُّ من وجهها في كل مكان يصلون إليه فيه[7].
وصل الزعيم محمد بن خوارزم في فراره إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، وهناك رضي بالبقاء فيها في
قلعة في فقرٍ شديد وحياة صعبة، وهو الملك الذي ملك بلادًا شاسعة، وأموالاً لا تُعَدُّ، ولكن رضي
بذلك لكي يفرَّ من الموت!
وما هي إلا أيام، حتى مات محمد بن خوارزم شاه في هذه الجزيرة في داخل القلعة[8] وحيدًا طريدًا شريدًا فقيرًا، حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنوه به، فكفنوه في فراش كان ينام عليه!! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء: 78].
كانت المسافة بين الفرقة التترية الصغيرة وبين القوة الرئيسية لجنكيزخان في (سمرقند) تزيد على ستمائة وخمسين كيلو مترًا، كلها أراضٍ إسلامية تُكِنُّ العداء الشديد للتتار، ومع ذلك انطلقت تلك الفرقة وسط جموع المسلمين في تلك البلاد الذين يبلغون الملايين، انطلقوا يقتلون ويأسرون، ويستولون على البلاد والمدن الإسلامية؛ فدخلوا مازندران (في إيران)، ثم الرَّيِّ (مدينة إيرانية كبيرة كذلك). وفي الطريق من مازندران إلى الري وجد التتار في طريقهم والدته ونساءه ومعهم الأموال الغزيرة والذخائر النفيسة التي لم يُسمع بمثلها، فأخذوا كل ذلك سبيًا وغنيمة، وأرسلوه من فورهم إلى جنكيزخان المتمركز في (سمرقند) آنذاك، ثم انطلقوا يكررون تلك الأفاعيل في المدن المحيطة[9].
بعد إتمام هذا الهجوم الكاسح اتجهت قوات التتار إلى اجتياح أذربيجان المسلمة، ثم إلى أرمينيا وجورجيا لمواجهة قبائل الكرج (وهي قبائل وثنية ونصرانية)، وتم احتلال أرمينيا وجورجيا، وقُتِل من الكرج أعداد لا تُحْصى[10].
لقد كان هجومًا كاسحًا يدل على وحشية التتار، وضعف مَن يواجهونهم في هذا الوقت. بعد أن اطمأن جنكيزخان إلى هروب محمد بن خوارزم شاه زعيم البلاد في اتجاه الغرب، وانتقاله من مدينة إلى أخرى هربًا من الفرقة التترية المطاردة له، بدأ جنكيزخان يبسط سيطرته على المناطق المحيطة بسمرقند، وعلى الأقاليم الإسلامية الضخمة الواقعة في جنوب سمرقند وشمالها.
وجد جنكيزخان أن أعظم الأقاليم وأقواها في هذه المناطق: إقليم خوارزم وإقليم خراسان، أما إقليم خراسان فإقليم شاسع به مدن عظيمة كثيرة مثل: بلخ، ومرو، ونيسابور، وهراة، وغزنة، وغيرها (وهو الآن في شرق إيران وشمال أفغانستان).
وأما إقليم خوارزم فهو الإقليم الذي كان نواةً للدولة الخوارزمية، واشتهر بالقلاع الحصينة والثروة العددية والمهارة القتالية، وهو يقع إلى الشمال الغربي من سمرقند، ويمر به نهر جيحون (وهو الآن في دولتي أوزبكستان وتركمنستان)، ولكن جنكيزخان أراد القيام بحرب معنوية تؤثر في نفسيات المسلمين قبل اجتياح هذه الأقاليم العملاقة، فقرر البدء بعمليات إبادة وتدمير تبث الرعب في قلوب المسلمين في الإقليمين الكبيرين خوارزم وخراسان، فأخرج جنكيزخان من جيشه ثلاث فرق:
فرقة لتدمير إقليم فرغانة (في أوزبكستان الآن)، وهو على بُعد حوالي خمسمائة كيلو متر إلى الشرق من سمرقند.
وفرقة لتدمير مدينة ترمذ (في تركمنستان الآن)، وهي مدينة الإمام (الترمذي) صاحب السنن رحمه الله، على بُعد حوالي مائة كيلو متر جنوب سمرقند.
وفرقة لتدمير قلعة كلابة، وهي من أحصن قلاع المسلمين على نهر جيحون.
وقد قامت الفرق الثلاث بدورها التدميري كما أراد جنكيزخان، فاستولت على كل هذه المناطق،
وأعملت فيها القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب والحرق، مثلما اعتاد التتار أن يفعلوا في
الأماكن الأخرى. ولما عادت هذه الجيوش من مهمتها القبيحة بدأ جنكيزخان يُعِدُّ للمهمة الأقبح، بدأ يُعِدّ لاجتياح إقليمي خراسان وخوارزم[11].
ولأجل احتلال هذين الإقليمين بدأ التتار بغزو بلخ؛ فطلب أهلها الأمان فأعطاهم جنكيزخان الأمان
على غير عادته، وذلك مقابل أن يعاونوه في غزو مدينة (مرو)؛ فاستجاب أهل بلخ المهزومون نفسيًّا، وعاونوه فيما أراد.
قتل التتار في مرو سبعمائة ألف مسلم ومسلمة، هم كل سكان المدينة من الرجال والنساء والأطفال، وسلبوا كل الأموال حتى إنهم نبشوا قبر السلطان (سنجر) بحثًا عن أموال أو حُلِيٍّ تكون مدفونة معه[12].
وبعد ذلك توجّه التتار إلى نيسابور (وهي تقع الآن في الشمال الشرقي لدولة إيران)، ثم هراة، فخوارزم.
جلال الدين والعدة لقتال التتار
وبتدمير إقليمي خراسان وخوارزم يكون التتار قد سيطروا على المناطق الشمالية ومناطق الوسط من دولة خوارزم الكبرى، ووصلوا في تقدمهم إلى الغرب إلى قريب من نهاية هذه الدولة (على حدود العراق)، ولكنهم لم يقتربوا بعدُ من جنوب دولة خوارزم. وجنوب دولة خوارزم كانت تحت سيطرة جلال الدين بن محمد بن خوارزم شاه، وهو ابن محمد بن خوارزم الذي فرَّ منذ شهور قليلة أمام التتار، وهرب إلى جزيرة ببحر قزوين حيث مات هناك.
بدأ جلال الدين يُعِدُّ العدة لقتال التتار، وجمع جيشًا كبيرًا من بلاده، وانضم إليه أحد ملوك الأتراك المسلمين اسمه (سيف الدين بغراق)، وكان شجاعًا مقدامًا، وكان معه ثلاثون ألف مقاتل، ثم انضم إليه أيضًا ستون ألفًا من الجنود الخوارزمية الذين فروا من المدن المختلفة في وسط وشمال دولة خوارزم بعد سقوطها. كما انضم إليه أيضًا (ملك خان) أمير مدينة هراة بفرقة من جيشه، وذلك بعد أن أسقط جنكيزخان مدينته، وبذلك بلغ جيش جلال الدين عددًا كبيرًا، ثم خرج جلال الدين بجيشه إلى منطقة بجوار مدينة غزنة تدعى (بلق)، وهي منطقة وعرة وسط الجبال العظيمة، وانتظر جيش التتار في هذا المكان الحصين، ثم جاء جيش التتار!
دارت بين قوات جلال الدين المتحدة وقوات التتار معركة من أشرس المواقع في هذه المنطقة، وقاتل المسلمون قتال المستميت؛ فهذه أطراف المملكة الخوارزمية، ولو حدثت هزيمة فليس بعدها أملاك لها. وكان لحميَّة المسلمين وصعوبة الطبيعة الصخرية والجبلية للمنطقة، وكثرة أعداد المسلمين، وشجاعة الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، والقيادة الميدانية لجلال الدين، كان لكل ذلك أثر واضح في ثبات المسلمين أمام جحافل التتار.
واستمرت الموقعة الرهيبة ثلاثة أيام، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وانهزم التتار للمرة الأولى في بلاد المسلمين!! وكثر فيهم القتل، وفرَّ الباقون منهم إلى ملكهم جنكيزخان، الذي كان يتمركز في (الطالقان) في شمال شرق أفغانستان[13].
وارتفعت معنويات المسلمين إلى السماء؛ فقد وقر في قلوب الكثيرين قبل هذه الموقعة أن التتار لا يُهزمون، ولكن ها هو اتحاد الجيوش الإسلامية في (غزنة) يؤتي ثماره؛ لقد اتحدت في هذه الموقعة جيوش جلال الدين مع بقايا جيوش أبيه محمد بن خوارزم شاه، مع الفرقة التركية بقيادة سيف الدين بغراق، مع ملك خان أمير هراة، واختار المسلمون مكانًا مناسبًا، وأخذوا بالأسباب المتاحة، فكان النصر.
واطمأن جلال الدين إلى جيشه، فأرسل إلى جنكيزخان في الطالقان يدعوه إلى قتال جديد، وشعر
جنكيزخان بالقلق لأول مرة، فجهَّز جيشًا أكبر، وأرسله مع أحد أبنائه لقتال المسلمين، وتجهز الجيش المسلم، والتقى الجيشان في مدينة (كابول) الأفغانية[14]. ومدينة كابول مدينة إسلامية حصينة تحاط من كل جهاتها تقريبًا بالجبال؛ فشمالها جبال هندوكوش الشاهقة، وغربها جبال باروبا ميزوس، وجنوبها وشرقها جبال سليمان.
ودارت موقعة كابول الكبيرة، وكان القتال عنيفًا جدًّا، أشد ضراوة من موقعة غزنة، وثبت المسلمون، وحققوا نصرًا غاليًا على التتار، بل وأنقذوا عشرات الآلاف من الأسرى المسلمين من يد التتار.
وفوق ارتفاع المعنويات، وقتل عدد كبير من جنود التتار، وإنقاذ الأسرى المسلمين، فقد أخذ المسلمون غنائم كثيرة نفيسة من جيش التتار.
كانت هذه الغنائم وبالاً على الجيش المسلم؛ روى البخارى ومسلم عن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله : "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"[15].
فتنة المال.. وهلاك المسلمين
لقد وقع المسلمون في الفتنة!!
قام سيف الدين بغراق أمير الترك، وقام أمير آخر هو ملك خان أمير مدينة هراة، قام كل منهما يطلب نصيبه في الغنائم، فحدث الاختلاف، وارتفعت الأصوات، ثم بعد ذلك ارتفعت السيوف!! وسقط من المسلمين قتلى على أيدي المسلمين، وكان ممن سقط أخٌ لسيف الدين بغراق، فغضب سيف الدين بغراق وقرر الانسحاب من جيش جلال الدين ومعه الثلاثون ألف مقاتل الذين كانوا تحت قيادته!! وحدث ارتباك كبير في جيش المسلمين، وأصرَّ سيف الدين بغراق على الانسحاب، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه وذكَّره بالجهاد، وخوَّفه من الله تعالى، لكن سيف الدين بغراق لم يتذكر وانسحب بجيشه فعلاً! [16].
وانكسر جيش المسلمين انكسارًا هائلاً، لقد انكسر ماديًّا، وكذلك انكسر معنويًّا!!
ولم يفلح المسلمون في استثمار النصر الغالي الذي حققوه في غزنة وكابول. وبينما هم كذلك إذ جاء جنكيزخان بنفسه على رأس جيوشه ليرى هذا المسلم الذي انتصر عليه مرتين، ودبَّ الرعب والهلع في جيش المسلمين؛ فقد قلَّت أعدادهم، وتحطمت معنوياتهم، ورأى جلال الدين أن جيشه قد ضعف جدًّا، فماذا فعل؟!
لقد أخذ جيشه وبدأ يتجه جنوبًا للهروب من جيش جنكيزخان، أو على الأقل لتجنُّب الحرب في هذه الظروف، ولكن جنكيزخان كان مصرًّا على اللقاء، فأسرع خلف جلال الدين!! وبدأ جلال الدين يفعل مثلما فعل أبوه من قبل!! لقد بدأ ينتقل من مدينة إلى مدينة متوجهًا إلى الجنوب، حتى وصل إلى حدود باكستان الآن فاخترقها، ثم تعمق أكثر حتى اخترق كل باكستان، ووصل إلى نهر السند الذي يفصل في ذلك الوقت بين باكستان وبين الهند، فأراد جلال الدين أن يعبر بجيشه نهر السند ليفر إلى الهند، مع أن علاقاته مع ملوك الهند المسلمين لم تكن على ما يرام، ولكنه وجد ذلك أفضل من لقاء جنكيزخان!!
وعند نهر السند فُوجئ جلال الدين وجيشه بعدم وجود السفن لنقلهم عبر النهر الواسع إلى الناحية الأخرى، فطلبوا سفنًا من مكان بعيد، وبينما هم ينتظرون السفن إذ طلع عليهم جيش جنكيزخان! ولم يكن هناك بدٌّ من القتال؛ فنهر السند من خلفهم، وجنكيزخان من أمامهم، ودارت موقعة رهيبة بكل معاني الكلمة، حتى إن المشاهدين لها قالوا: إن كل ما مضى من الحروب كان لعبًا بالنسبة إلى هذا القتال[17]. واستمر اللقاء الدامي ثلاثة أيام متصلة، واستحرَّ القتل في الفريقين، وكان ممن قتل في صفوف المسلمين الأمير ملك خان، الذي كان قد تصارع من قبل مع سيف الدين بغراق على الغنائم، وها هو لم يظفر من الدنيا بشيء، بل ها هي الدنيا قد قتلته، ولم يتجاوز لحظة موته بدقيقة واحدة. ولكن شتَّان بين مَن يموت وهو ناصر للمسلمين بكل طاقته، ومن يموت وقد تسبب بصراعه في فتنة أدت إلى هزيمةٍ مُرَّة.
وفي اليوم الرابع انفصلت الجيوش لكثرة القتل، وبدأ كل طرف يعيد حساباته، ويرتِّب أوراقه، ويضمد جراحه، ويُعِدُّ عدته، وبينما هم في هذه الهدنة المؤقتة جاءت السفن إلى نهر السند، ولم يضيِّع جلال الدين الوقت في تفكير طويل، بل أخذ القرار السريع الحاسم وهو (الهروب)!! وقفز الزعيم المسلم إلى السفينة، ومعه خاصته ومقربوه، وعبروا نهر السند إلى بلاد الهند، وتركوا التتار على الناحية الغربية من نهر السند؛ فانقلب جنكيزخان على بلاد المسلمين يصبُّ عليها جام غضبه، ويفعل بها ما اعتاد التتار أن يفعلوه وأكثر. وكانت أشد المدن معاناة هي مدينة غزنة، التي انتصر عندها المسلمون منذ أيام أو أشهر عندما كانوا متحدين، دخل جنكيزخان المدينة الكبيرة، عاصمة جلال الدين بن خوارزم فقتل كل رجالها بلا استثناء، وسبى كل الحريم بلا استثناء، وأحرق كل الديار بلا استثناء!! وتركها -كما يقول ابن الأثير- خاوية على عروشها، كأن لم تغن بالأمس[18]!!
ويجدر بالذكر أن نشير إلى أنه في جملة الذين أمسك بهم جنكيزخان من أهل المدن كان أطفال جلال الدين بن خوارزم، وقد أمر جنكيزخان بذبحهم جميعًا. وهكذا ذاق جلال الدين من نفس المرارة التي ذاقها الملايين من شعبه. روى البيهقي بسند صحيح رواته ثقات إلا أنه من مراسيل أبي قلابة رحمه الله، أن رسول الله قال: "كُنْ كَمَا شِئْتَ، كَمَا تُدِينُ تُدَانُ"[19].
وبذلك حقق جنكيزخان حُلمًا غاليًا، ما كان يتوقع أن يكون بهذه السهولة، وهذا الحلم هو احتلال أفغانستان!!
وبذلك يكون التتار قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم التركمنستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا، وقد اقتربوا جدًّا من العراق، كل هذا في سنة واحدة!! في سنة 617هـ/ 1220م.
أما في عام 618هـ/ 1221م فقد دخل التتار مراغة، ثم فكَّروا في غزو مدينة (أربيل) في شمال العراق؛ فخشي الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن يعدل التتار عن مدينة أربيل لطبيعتها الجبلية، فيتجهون إلى بغداد بدلاً منها؛ فبدأ يفيق من السبات العميق الذي أصابه في السنوات السابقة، وبدأ يستنفر الناس لملاقاة التتار في (أربيل) إذا وصلوا إليها، وأعلنت حالة الاستنفار العام في كل المدن العراقية، وبدأ جيش الخلافة العباسية في التجهُّز.
ولكن الخليفة العباسي الناصر لدين الله لم يستطع أن يجمع إلا ثمانمائة رجل فقط!! لم يكن الناصر لدين الله خليفة، وإنما كان (صورة) خليفة، أو (شبح) خليفة. ولم يستطع قائد الجيش (مظفر الدين) طبعًا أن يلتقي بالتتار بهذا العدد الهزيل، فانسحب بالجيش، ومع ذلك -سبحان الله- فقد شعر التتار أن هذه خدعة، وأن هذه هي مقدمة العسكر، فليس من المعقول أن جيش الخلافة العباسية المرهوبة لا يزيد على ثمانمائة جندي فقط؛ ولذلك قرروا تجنُّب المعركة وانسحبوا بجيوشهم.
لقد كان التتار يقدِّرون إمكانيات العراق بأكثر من الحقيقة بكثير، ومن ثَمَّ فقد آثروا ألا يدخلوا مع الخلافة في صدام مباشر، واستبدلوا بذلك ما يُعرف (بحرب الاستنزاف)، وذلك عن طريق توجيه ضربات خاطفة موجعة للعراق، وعن طريق الحصار الطويل المستمر، وأيضًا عن طريق عقد الأحلاف والاتفاقيات مع الدول والإمارات المجاورة لتسهيل الحرب ضد العراق في الوقت المناسب؛ لذلك فقد انسحب التتار بإرادتهم ليطول بذلك عمر العراق عدة سنوات أخرى.
وفي طريق الانسحاب قام التتار باجتياح همذان وأردويل، ثم اقتربوا من تبريز، وكان التتار قد رضوا سابقًا بالمال والثياب والدواب من صاحبها المخمور (أوزبك بن البهلوان)، ولم يدخلوها لأنهم جاءوا إليها في الشتاء القارس، أما الآن وقد تحسن الجو وصفت السماء، فلا مانع من خيانة العهود ونقض المواثيق. ولكنهم -في طريقهم إلى تبريز- علموا بأمر قد جدَّ على هذه البلدة، لقد رحل عنها صاحبها المخمور أوزبك بن البهلوان، وتولى قيادة البلاد رجل جديد هو شمس الدين الطغرائي، وكان رجلاً مجاهدًا يفقه دينه ودنياه، فقام رحمه الله يحمِّس الناس على الجهاد وعلى إعداد القوة، وقوَّى قلوبهم على الامتناع، وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني، وعلمهم ما عرفوه نظريًّا ولم يطبقوه عمليًّا في حياتهم على الإطلاق: علمهم أن الإنسان لا يموت قبل ميعاده أبدًا، وأن المسلمين مهما تنازلوا للتتار فلن يتركوهم، إلا إذا احتمى المسلمون وراء سيوفهم ودروعهم، أما بغير قوة فلن يُحمى حق على وجه الأرض.
وتحركت الحميَّة في قلوب أهل تبريز، وقاموا مع قائدهم البارِّ يحصنِّون بلدهم، لقد تجهز القوم -وللمرة الأولى منذ زمن- للجهاد!!
وسمع التتار بأمر المدينة، وبحالة العصيان المدني فيها، وبحالة النفير العام، سمعوا بدعوة الجهاد، والتجهُّز للقتال، سمع التتار بكل ذلك، فماذا فعلوا؟ لقد أخذ التتار قرارًا عجيبًا!!
لقد قرروا عدم التعرض لتبريز، وعدم الدخول في قتال مع قوم قد رفعوا راية الجهاد في سبيل الله!! لقد ألقى الله الرعب في قلوب التتار -على كثرتهم- من أهل تبريز على قلتهم[20].
لقد نُصِر رسول الله بالرعب مسيرة شهر، وكذلك يُنصر بالرعب كل من سار على طريقه . فكانت هذه صورة مشرقة في وسط هذا الركام المظلم، ورحم الله شمس الدين الطغرائي الذي جدَّد الدين في هذه المدينة المسلمة (تبريز).
مرَّ التتار بمدينة البيلقان؛ فوضعوا فيها السيف في رمضان 618هـ/ 1221م، ثم اتجهوا إلى مدينة كنجة؛ فلجأ أهلها إلى سلاح الجهاد، واستعدوا له كما فعلت تبريز؛ فألقى الله في قلوب التتار الرعب منهم؛ فتركوا البلد على حالها ورحلوا عنها، واتجهوا لغزو داغستان والشيشان، وقاموا كعادتهم بتدمير كل شيء في هذه البلاد، وقتلوا معظم من وجدوه في طريقهم، وكانت أشد المدن معاناة من التتار هي مدينة شَمَاخِي المسلمة (في داغستان الآن) [21].
مرت السنوات والجرئم التترية تزيد حتى جاءت سنة 622هـ/ 1225م، وفيها خفَّت قبضة التتار؛ فظهر من جديد جلال الدين بن خوارزم شاه، الذي ذهب يتحالف مع الأمير سعد الدين بن دكلا ضد أخيه غياث الدين بن خوارزم شاه!! [22].
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محاربًا أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريبًا من الخلافة العباسية. وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جدًّا، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفًا، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية، هذا وجيوش التتار قابعة في شرق إيران!! ولا عجب؛ فقد كان جُلُّ الزعماء في تلك الآونة مصابين بالحول السياسي. ودخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها مدةَ شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريبًا من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهَّز الجيوش لدفع جلال الدين، ولكن لم يكتف بذلك بل ارتكب فعلاً شنيعًا مقززًا؛ إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!! [23] سبحان الله!!
لكن التتار كانوا مشغولين ببسط سيطرتهم في المناطق الشاسعة التي احتلوها، فلم يحدث بينهم وبين جلال الدين قتال إلا في أواخر سنة 622هـ/ 1225م، واستثمر جلال الدين هذه الفترة في بسط سيطرته على المناطق المحيطة ببغداد، ثم شمال العراق ثم منطقة شمال فارس، وبدأ يدخل في أذربيجان وما حولها من أقاليم إسلامية.
ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة الكرج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحًا مؤقتًا، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر[24].
وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، إضافةً إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بما فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خوارزم، وتحدثنا عنها من قبلُ، ولم تأت إلا بالويلات على الأمة، وليت المسلمين يفقهون.
وجاءت سنة 624هـ/ 1226م تحمل معها خبر موت جنكيزخان الطاغية الذي بنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب، بناها على جماجم البشر وأشلائهم، وخاصةً من المسلمين، وقد مات عن اثنين وسبعين عامًا[25].
وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبيًّا في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين
إلى وسط إيران تقريبًا، بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين، وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له.
الاجتياح التتري الثاني
أتت سنة 628هـ/ 1230م تحمل هجمة تترية بشعة جديدة على الأمة الإسلامية؛ فقد تولى قيادة التتار الزعيم الجديد (أوكيتاي)، وأخذ ينظِّم أمور مملكته في معقلها بمنغوليا والصين، وذلك من سنة 624 إلى سنة 627هـ (من 1226 إلى 1229م) [26].
وبعد أن تم له ذلك بدأ يفكر من جديد في اجتياح العالم الإسلامي، واستكمال الحروب بعد ذلك في منطقة روسيا التي هُزمت فيها قبل ذلك الجيوش التترية، ومحاولة استكمال الفتوح في داخل أوربا، كلف الخاقان الكبير (أوكيتاي) أحد أبرز قادته بالقيام بمهمة الاجتياح التتري الثاني، وهو القائد (شورماجان) الذي جمع جيشًا هائلاً من التَّتَر، وتقدَّم صوب العالم الإسلامي من جديد. لما جاءت جيوش التتار بقيادة شورماجان اجتاحت البلاد الإسلامية اجتياحًا بشعًا، وقد وصل إلى علمها أن جلال الدين قد ضعف جدًّا في هذه السنة لحدوث هزيمتين له من الأشرف بن العادل حاكم ديار الجزيرة في شمال العراق وجنوب تركيا، وكانت طائفة الإسماعيلية -وهي من طوائف الشيعة في غرب إقليم فارس- قد راسلت التتار وأخبرتهم بضعف جلال الدين؛ وذلك لأنه كانت بينهم وبين جلال الدين حروب، فأرادوا الانتقام منه بإخبار التتار بوقت ضعفه[27].
وجاءت جحافل التتار ودمرت في طريقها كل ما يمكن تدميره، وأكلت الأخضر واليابس، وكان لها هدف رئيسي هو الإمساك بجلال الدين بن خوارزم، والتقى بهم جلال الدين في موقعة انهزم فيها شرَّ هزيمة، وأسرع بالفرار من أمام التتار وقد تمزَّق جيشه، وأخذ يتنقل بمفرده بين القرى فرارًا من التتار، واختفى ذكره من البلاد شهورًا متصلة؛ فلا يعرف أحد إن كان قُتل أو اختفى أو هرب إلى بلد آخر، حتى قابله أحد فلاحي الأكراد، وعرفه، فخدعه وأطعمه حتى نام، وهنا قام الفلاح وقتل جلال الدين بالفأس، وأخذ ما عليه من الجواهر وسلمها إلى شهاب الدين غازي صاحب هذه المنطقة، والذي طالما ذاق من ويلات جلال الدين[28].
هكذا كانت نهاية الظالمين، ونهاية المفرِّطين، ونهاية الذين تملكوا رقاب العباد فما رعوا لله حقًّا، وما رعوا للرعية حقًّا، وما رعوا للرحم حقًّا، وعاشوا لأنفسهم فقط.
ونتيجة سوء التربية، وغياب الفهم الصحيح للإسلام، والتمسك بالدنيا إلى أقصى درجة، وعدم وضوح الرؤية عند الناس؛ فقد دبت الهزيمة النفسية الرهيبة في داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة، وهذا -لا شك- سهَّل جدًّا من مهمة التتار الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع!!
يروي ابن الأثير في الكامل في أحداث السنة الثامنة والعشرين بعد الستمائة بعض الصور التي استمع إليها بإذنه من بعض الذين كُتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول: كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع[29]!!
وقال أيضًا: "ولقد بلغني أن إنسانًا منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتريُّ فأحضر سيفًا وقتله به"[30]!!
لقد ضم شورماجان شمال إقليم فارس (شمال إيران حاليًا) إلى الإمبراطورية التترية، وذلك في سنة 629هـ/ 1231م، ثم زحف بعد ذلك على إقليم أذربيجان فضمه إلى أملاكه، وبتلك الانتصارات التترية -إلى جانب موت جلال الدين على النحو الذي مرَّ بنا- اكتمل سقوط إقليم فارس كله في يد التتار باستثناء الشريط الغربي الضيق الذي تسيطر عليه طائفة الإسماعيلية الشيعية.
ثم بدا لشورماجان أن يستقر في هذه المناطق ولا يكمل زحفه إلا بعد ترسيخ قدمه، وتثبيت جيشه، ودراسة المناطق المحيطة، وما إلى ذلك من أمور تدعم السلطان التتري في هذه المنطقة. ظل شورماجان يرسخ حكم التتر في هذه المناطق مدةَ خمس سنوات كاملة، من سنة 629هـ/ 1231م إلى سنة 634هـ/ 1236م، وأثناء هذه السنوات الخمس لم تخرج عليه ثورة مسلمة!! ولم يتحرك لقتاله جيش مسلم!! مع أن جيوش المسلمين تملأ المناطق المجاورة لفارس وأذربيجان، وذلك في العراق والموصل ومصر والحجاز وغيرها!!
بعد هذه السنوات الخمس في إقليمي فارس وأذربيجان بدأ شورماجان في سنة 634هـ/ 1236م في الالتفاف حول بحر قزوين من ناحية الغرب لينطلق شمالاً لاستكمال فتوحاته، وبسرعة استطاع أن يسيطر على أقاليم أرمينيا وجورجيا (مملكة الكرج النصرانية) والشيشان وداغستان. ثم بدأ جيش آخر من جيوش التتار بزعامة (باتو بن جاجي) في قيادة الحملات التترية شمال بحر قزوين، وذلك في نفس السنة 634هـ/ 1236م، وأخذ في قمع القبائل التركية النازلة في حوض نهر الفولجا، ثم زحف بعد ذلك على البلاد الروسية الواسعة، وذلك في سنة 635هـ/ 1237م.
وبدأ هذا الجيش التتري الرهيب يقوم بالمذابح الشنيعة في روسيا النصرانية، فاستولى على العديد من المدن الروسية، وذلك في سنتي 635 و636 هجرية، سقطت تحت أقدام هذا الجيش مدن (ريدان)، ثم (كولومونا) بعدها بأيام، ثم سقطت مدينة (فلاديمير) الكبيرة بعد صمود ستة أيام فقط، واقترن سقوطها بمذبحة بشعة، ثم سقطت (سوذال)، ثم توجهت الجيوش التترية إلى أعظم مدن روسيا (موسكو) فتم اجتياحها وتدميرها، ثم سقطت بعد ذلك مدن (يورييف) و(جاليش) و(بريسلاف) و(روستوف) و(ياروسلاف)، ثم سقطت مدينة (تورزوك)، وبذلك احتل التتار دولة روسيا بكاملها!! ومع أن مساحة روسيا سبعة عشر مليون كيلو متر مربعًا، إلى جانب أعداد سكانها الهائلة وأحوالها المناخية القاسية إلا أن التتار احتلوها بالكامل في عامين فقط!!
وفي سنة 638هـ/ 1240م تحركت جيوش التتار غربًا بقيادة (باتو بن جاجي) فاحتلوا دولة أوكرانيا بكاملها (ومساحتها ستمائة ألف كيلو متر مربع)، واجتاحوا العاصمة (كييف)، ودمروا كنوزها العظيمة، ولقي أكثر سكانها مصرعهم.
وفي سنة 639هـ/ 1241م زحفت فرقة من قوات التتار بقيادة (بايدر) إلى الشمال الغربي من دولة أوكرانيا فدخلت مملكة بولندا، ودمرت الكثير من المدن البولندية، فلم يجد الملك البولندي إلا أن يستعين بالفرسان الألمان القريبين منه (ألمانيا تقع في غرب بولندا مباشرة)، فجاء الأمير هنري دوق (سيليزيا الألمانية)، واشترك مع ملك بولندا في تكوين جيش واحد لملاقاة التتار، غير أن هذا الجيش لقي هزيمة ساحقة على أيدي الجيوش التترية بقيادة (بايدر)؛ وبذلك سقطت بولندا أيضًا تحت حكم التتار!
وفي هذه الأثناء وفي نفس السنة 639هـ/ 1241م ترك (باتو) قائد التتار المتمركز في أوكرانيا فرقة تترية في هذه المنطقة، واتجه بجيشه الرئيسي غربًا إلى مملكة المجر حيث التقى مع ملك المجر في موقعة رهيبة دمر على أثرها الجيش المجري بكامله، وبذلك احتُلت المجر أيضًا!
ثم نزل (بايدر) من بولندا في اتجاه الجنوب لمقابلة جيوش التتار بقيادة باتو في المجر، وفي طريقه للنزول اجتاح دولة سلوفاكيا وضمها بكاملها إلى دولة التتار!! ثم تدفقت الجيوش التترية إلى دولة كرواتيا فاجتاحتها!!
وبذلك وصلت الجيوش التترية إلى سواحل البحر الأدرياتي (وهو البحر الفاصل بين كرواتيا وإيطاليا)، وبذلك يكون التتار قد ضموا إلى أملاكهم نصف أوربا تقريبًا!!
وكان من الممكن أن تستمر الفتوحات التترية في أوربا -وقد وصلت حدود دولة التتار إلى دول ألمانيا والنمسا وإيطاليا- لولا أن الخاقان الكبير ملك التتار (أوكيتاي) مات في هذا العام 639هـ/ 1241م فاضطر الأمير (باتو بن جاجي) أن يوقف الحملات، ويستخلف أحد قواده على المناطق المفتوحة، ويعود إلى (قراقورم) عاصمة التتار في منغوليا للمشاركة في اختيار الخاقان التتري الجديد[31].
أخذت عقائد الجيش التتري في التغيُّر بعد الحملات التي وجهوها إلى أوربا، فقد تزوج عدد كبير من قادة المغول من فتيات نصرانيات، وبذلك بدأت الديانة النصرانية تتغلغل نسبيًّا في البلاط المغولي، وقد ساعد هذا على إمكانية التعاون بين التتار والصليبيين.
بعد تولية كيوك بن أوكيتاي خاقان التتار الجديد قرَّر أن يوقف الحملات التوسعية، ويتفرغ لتثبيت الأقدام في أجزاء مملكته المختلفة، وقد ظلَّ كيوك يحكم من سنة 639هـ/ 1241م إلى سنة 646هـ/ 1248م، وفي هذه السنوات السبع لم يدخل التتار بلادًا جديدة إلا فيما ندر، وكانت فترة هدوء نسبي في المناطق المجاورة لمملكة التتار، وإن كانت المناطق المنكوبة بالتتار ما زالت تعاني من ظلم وبشاعة الاحتلال التتري.
وفي سنة 640هـ/ 1242م تُوُفِّي المستنصر بالله الخليفة العباسي، وتولَّى الخلافة ابنه المستعصم بالله، وكان يبلغ من العمر آنذاك ثلاثين عامًا، وهو وإن كان قد اشتهر بكثرة تلاوة القرآن، وبالنظر في التفسير والفقه، وكثرة أعمال الخير إلا أنه لم يكن يفقه كثيرًا -ولا قليلاً!- في السياسة، ولم يكن له علم بالرجال؛ فاتخذ بطانة فاسدة، وازداد ضعف الخلافة عما كانت عليه، فهو آخر الخلفاء العباسيين، وهو الذي ستسقط بغداد في عهده بعد ذلك.
في هذه الأوقات كان لويس التاسع ملك فرنسا يجهز لحملته الصليبية على مصر، والتي عُرِفت في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة، وكان يجمع جيوشه في جزيرة قبرص، وذلك في سنة 646هـ/ 1248م، وقد رأى لويس التاسع أن الأمل لم ينقطع في إمكانية التحالف مع التتار ضد المسلمين؛ فأرسل سفارة صليبية ثالثة من قبرص إلى منغوليا لطلب التعاون من كيوك في هذه الحملة، وزوَّد السفارة بالهدايا الثمينة، والذخائر النفيسة، لكن عندما وصلت هذه السفارة إلى (قراقورم) العاصمة التترية في منغوليا فوجئت بوفاة خاقان التتار (كيوك)، ولم يكن كيوك قد ترك إلا أولادًا ثلاثة صغارًا لا يصلحون للحكم في هذه السن الصغيرة، فتولَّت أرملة كيوك -وكانت تُدعَى أوغول قيميش- الوصاية عليهم، ومن ثَمَّ تولت حكم التتار، وذلك ابتداءً من سنة 646هـ/ 1248م، ولمدة ثلاث سنوات.
حاول لويس التاسع الاتصال بالتتار، والتنسيق معهم للهجوم على المسلمين؛ فاعتذرت أرملة كيوك؛ لانشغالها بالصراعات على الحكم، لكنَّ لويس التاسع أصرَّ على القيام بحملته حتى مع عدم اشتراك التتار، وتوجه بالفعل إلى دمياط واحتلها، لكن انتفاضة المماليك في نهاية عصر الأيوبيين، تمكنت من هزيمة لويس التاسع وحملته، بل وأسر لويس نفسه بعد موقعة المنصورة الشهيرة في التاريخ.
في ذات الوقت اجتمع المجلس الوطني للتتار والمسمَّى (بالقوريلتاي)، وذلك في سنة 649هـ/ 1251م، وقرروا اختيار خاقان جديد للتتار، وبالفعل اختاروا (منكوخان) ليكون زعيمًا جديدًا للتتار.
وكان اختيار منكوخان زعيمًا لمملكة التتار بداية تحول كبير في سياسة التتار، وبداية تغيير جذري في المناطق المحيطة بالتتار، فقد كانت لديه سياسة توسعية شبيهة بسياسة جنكيزخان المؤسِّس الأول لدولة التتار، وشبيهة أيضًا بسياسة أوكيتاي الذي فُتحت أوربا في عهده؛ ومن ثَمَّ بدأ منكوخان يفكر من جديد في إسقاط الخلافة العباسية، وما بعدها من بلاد المسلمين[32].
الاجتياح التتري الثالث
منذ تولى منكوخان زعامة دولة التتار وهو يفكر في إسقاط الخلافة العباسية واجتياح العراق، ثم بعد ذلك اجتياح الشام ومصر، وكان منكوخان قائدًا قويًّا حازمًا، لكن ساعده بصورة أكبر إخوته الثلاثة الذين كانوا عونًا له في تحقيق أحلامه، فأحد إخوته وهو (أرتق بوقا) ظلَّ معه في (قراقورم) العاصمة؛ ليدير معه الإمبراطورية الواسعة، وأما الأخ الثاني (قبيلاي) فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية التي تضم الصين وكوريا وما حولها من أقاليم، وأما الأخ الثالث (هولاكو) فقد أصبح مسئولاً عن إدارة إقليم فارس وما حوله؛ مما يجعله في مواجهة الخلافة الإسلامية مباشرة، ولا شك أن الجميع قد سمع عن اسم هولاكو قبل ذلك!!
ومنذ تسلَّم هولاكو قيادة قطاع فارس وهو يُعِدُّ العُدَّة لإسقاط الخلافة العباسية. والحق أن إعداده كان باهرًا عظيمًا، بقدر ما كان ردُّ فعل المسلمين لهذا الإعداد تافهًا حقيرًا، وإذا كان الوضع كذلك فلا بد أن ينتصر هولاكو على مناوئيه وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأن لله سننًا لا تتبدل ولا تتغير، والذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يعطيه الله وإن كان كافرًا، والذي لا يُعِدُّ نفسه ليوم اللقاء لا بد أن ينهزم وإن كان مسلمًا، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
وهكذا أراد هولاكو حياته الدنيا، وأعدَّ لها إعدادًا جيدًا، فأخذ نصيبه من الدنيا، ولم يبخس منه شيئًا.
لقد بدأ هولاكو عمله في سنة 649هـ/ 1251م بحميَّة شديدة وسرعة فائقة، ومع ذلك فإنه كان يتحلى بالصبر والأناة والإتقان في كل خطوة؛ فقد ظلَّ يُعِدُّ العدة في صبر حتى مرت خمس سنوات كاملة من سنة 649هـ/ 1251م إلى سنة 654هـ/ 1256م، وهو يعمل في نشاط لكي يكون جاهزًا تمامًا.
لقد عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسية، وبصورة متناسقة:
المحور الأول: الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات، وضمان استمرارية وسيولة الإمداد والتموين؛ فقام بإصلاح كافة الطرق المتجهة من الصين إلى العراق، وأقام الجسور الكثيرة والكبيرة على الأنهار التي تعترض طريق الجيوش، كما جهَّز مجموعة ضخمة من الناقلات العملاقة صنعت خِصِّيصَى لحمل أدوات الحصار الكبيرة من الصين إلى بغداد.
المحور الثاني: الاستعداد السياسي والدبلوماسي؛ فقد بدأ التتار في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف وموازين القوى المختلفة؛ وذلك لضمان نجاح المهمة الكبيرة، وهو تغيُّر كبير في السياسة التترية التي ما عرفت قبل ذلك تحالفًا ولا دبلوماسية.
وقد وصل هولاكو في تحالفاته إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، وهو الشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة، وهو الوزير (مؤيد الدين العلقمي الشيعي)!!
كان مؤيد الدين رجلاً فاسدًا خبيثًا رافضيًّا (يرفض خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما)، وكان شديد التشيُّع، كارهًا للسُّنَّة ولأهل السنة. ومن العجب أنه يصل إلى هذا المنصب المرموق وهو على هذه الصفة، وفي دولة سنية تحمل اسم الخلافة!
والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير لم يبق في مكانه شهرًا أو شهرين أو عامًا أو عامين، وإنما بقي في مكانه أربع عشرة سنة كاملة، من سنة 642هـ/ 1244م إلى سنة 656هـ/ 1258م عندما سقطت بغداد، وإذا مرت كل هذه الفترة دون أن يدرك الخليفة خطورته، فلا شك أن هذا دليل واضح على خِفَّة عقل الخليفة.
لقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين العلقمي الشيعي، مستغلاًّ فساده وتشيُّعه وكراهيته للسنة، واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضللة التي يقدمها للخليفة العباسي المستعصم بالله، وذلك في مقابل أن يكون له شأن في (مجلس الحكم) الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، والتخلص من الخليفة. وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون، وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرت بالمنطقة في تلك الأوقات.
المحور الثالث: الحرب النفسية على المسلمين؛ إذ كانت لهولاكو أكثر من وسيلة لشنِّ هذه الحرب المهولة على المسلمين، ومن هذه الوسائل مثلاً: القيام ببعض الحملات الإرهابية في المناطق المحيطة بالعراق، والتي لم يكن لها غرض إلا بث الرعب، وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة التي وقعت في السابق في عهود جنكيزخان وأوكيتاي.
المحور الرابع: إضعاف جيوش الخلافة العباسية؛ فقد عمد هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي أن يقنع الخليفة العباسي المستعصم بالله أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلِّل من أعداد الجنود، وألاَّ يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب، بل يُحوِّل الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة وغيرها. والجميع يرى اليوم اشتغال الجند في بعض بلاد المسلمين بزراعة الخضراوات، وبناء الجسور، وأعمال المخابز والنوادي!! دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد!! وقد قام بذلك فعلاً الوزير العميل مؤيد الدين العلقمي، وهذا لا يستغرب من مثله، ولكن الذي يستغرب فعلاً أن الخليفة قَبِل هذه الأفكار المخجلة، وذلك كما أشار عليه الوزير الفاسد حتى لا يثير حفيظة التتار؛ وليثبت لهم أنه رجل سلام ولا يريد الحروب!! لقد قام الخليفة فعلاً بخفض ميزانية التسليح، وقام أيضًا بتقليل عدد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله وذلك في سنة 640هـ/ 1242م، أصبح هذا الجيش لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654هـ/ 1256م!!
وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق سوف تمثِّل خطورة على الجيش التتري، هذا إضافةً إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية، فقد قتلت الإسماعيلية ابنًا من أبناء جنكيزخان اسمه (جغتاي)، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس منذ أكثر من ثلاثين سنة. كل هذا دفع التتار إلى العزم على التخلص من الإسماعيلية نهائيًّا، وصدرت الأوامر من قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود.
وهكذا تم في خلال سنة 655هـ/ 1257م استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه المنطقة كلها تقريبًا، ولم ينجُ منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو العراق، وبذلك أصبح الطريق آمنًا مفتوحًا إلى بغداد، وبدأت الجيوش المغولية الرابضة في فارس تزحف ببطء -ولكن بنظام- في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة، بل قليلة جدًّا[33].
سقوط بغداد
اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يُعَدُّ من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة (بغداد)، وكان مجلس الحرب معقودًا في مدينة همدان الفارسية (في إيران حاليًا)، وهي تقع على مسافة حوالي 450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي، وقرر هولاكو في هذا المجلس أن يقسِّم جيشه إلى ثلاثة أقسام: القلب، وسيقوده هولاكو بنفسه، والجناح الأيسر، وسيقوده (كتبغا) أفضل قواد هولاكو، أمّا الجيش الثالث؛ فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن)، وعلى رأسه القائد التتري الكبير (بيجو).
ولم ينتبه الخليفة ولا قادته إلى تحركات التتار إلا بعدما صارت جيوشهم على مسافة خمسين كيلو مترًا من بغداد بعد أن سارت تلك الجيوش آلاف الكيلو مترات داخل الأراضي الإسلامية دون أن تتعرض لهجوم، أو مضايقات، أو حتى لاستطلاع المخابرات الإسلامية التي يبدو أنها لم يكن لها وجود.
وتم الحصار، وحَارَ الخليفة: ماذا يفعل وهو لم يعتد تلك المواجهات؟!!
وأشار عليه الوزير الخائن مؤيَّد الدين العلقمي الشيعي بالتسليم، ولكن في هذه اللحظة قام رجلان من خاصَّة الخليفة، وأشارا عليه بالجهاد، ووافق الخليفة رغم عدم سابق خبرته بالجهاد، ولا تفكيره فيه فضلاً عن استعداده له.
وكانت الهزيمة القاسية، والإبادة شبه الكاملة هي مصير تلك القوة الهزيلة التي تمكن مجاهد الدين أيبك من جمعها، ولم يصبح أمام الخليفة الذي لم يتعود الجهاد، ولم يعرف معنى العزة والكرامة إلا أن يستسلم لمن أوردوه المهالك؛ فاستجاب لنصيحة ابن العلقمي الغادرة بأن يذهب بنفسه لمفاوضة هولاكو.
خرج الخليفة للقاء هولاكو الذي اشترط استقدام العلماء والقادة والأئمة والتجار وسائر الأعيان وأبناء الخليفة؛ فجاءوا معًا، فلما أتوا أُخِذوا جميعًا للقتل عدا الخليفة وسبعة عشر من الوفد منهم ابن واحد للخليفة؛ حيث قُتِل له ولدان أمام عينيه، وسيق الخليفة المستعصم مقيدًا ليدلَّ التتار على أماكن الأموال والذخائر والنفائس في القصور، ثم أصدر هولاكو أمره باستباحة بغداد أربعين يومًا كاملة، قتل فيها الرجال، وسُبِيت النساء واغتُصِبن، وقُتِل الرُّضَّع، ونُهِبت الأموال، وكان حصاد تلك الاستباحة مليون قتيل!! نَعَمْ مليون قتيل!!
وأمر هولاكو بعد ذلك بقتل الخليفة رفسًا بالأقدام؛ لتكون نهايته مهينة كما كانت حياته. وبعد ذلك اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة، وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، وجمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.
لقد ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وحتى قيل إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!! [34].
هذه جريمة ليست في حق المسلمين فقط، بل في حق الإنسانية كلها!!
وبعد ذلك خرج الجيش التتري بكامله من بغداد لكيلا يصاب بالطاعون نتيجة الجثث المنتشرة في كل مكان، وأُعْلِن في بغداد أمان حقيقي، فلا يُقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين يومًا، وقد سمح التتار بهذا الأمان حتى يخرج المسلمون من مخابئهم ليقوموا بدفن موتاهم. كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يُعيَّن مؤيَّد الدين العَلْقمي الشيعي رئيسًا على مجلس الحكم المعين من قِبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه -بلا شك- وصاية تترية.
ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار؛ وذلك لتحطيم نفسيته، فلا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر!!
وقد رأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بدابته، ويضربون دابته بالعصا، فقالت له المرأة المسلمة الذكية: "أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!".
وقد وقعت كلمات المرأة المسلمة الفطنة في نفس مؤيد الدين العلقمي، فانطلق إلى بيته مهمومًا مفضوحًا، واعتكف فيه، وركبه الهم والغم والضيق. ولم يستطع الوزير الخائن أن يتحمل الوضع الجديد، فبعد أيام من الضيق والكمد، مات ابن العلقمي في بيته!! [35].
مات بعد شهور قليلة جدًّا من نفس السنة التي دخل فيها التتار بغداد، سنة 656هـ/ 1258م، ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة!! وليكون عِبْرة بعد ذلك لكل خائن، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
وولَّى التتار ابن مؤيد الدين العلقمي على بغداد، فالابن قد ورث الخيانة من أبيه، لكنه مات في نفس السنة التي سقطت فيها بغداد سنة 656هـ/ 1258م!!
ترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية، والخطوة التالية بعد العراق - لا شك- أنها ستكون سورية (الشام)، فبدأ هولاكو في دراسة الموقف في هذه المنطقة.
وبينما هو يقوم بهذه الدراسة، ويحدِّد نقاط الضعف والقوة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون على ولائهم للتتار، وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار تطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع (الصديق) الجديد، رجل الحرب والسلام: هولاكو!!
ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجِفّ بعدُ، إلا أن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو؛ فالفجوة -كما يقولون- هائلة بينهم وبين هولاكو، والأفضل -في اعتباراتهم- أن يفوزوا بأيِّ شيء أفضل من لا شيء، أو على الأقل يحيِّدون جانبه، ويأمنون شره، {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72].
ولا شك أنه كان هناك أيضًا من العلماء الوصوليين من يؤيِّدون خطواتهم، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباعهم، والرضا بأفعالهم.
وجاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع (الصديق) هولاكو:
- الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.
- الأمير كيكاوس الثاني، والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول (وسط وغرب تركيا).
- الأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص.
- الأمير الناصر يوسف (حفيد صلاح الدين الأيوبي) أمير حلب ودمشق.
وهؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق وأرض الشام وتركيا. إذن لقد حُلَّت المشاكل أمام هولاكو، لقد فتحت بلاد المسلمين أبوابها له دون أن يتكلف قتالاً.
ولكن كان هناك أحد الأمراء الأيوبيين الذي رفض أن يرضخ له، ورفض أن يعقد معاهدات سلام مع التتار، هذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظًا بمروءته وكرامته ودينه هو الأمير الكامل محمد الأيوبي -رحمه الله- أمير منطقة مَيَّافارِقين.
و(مَيَّافارِقين) مدينة تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة (وان)، وكانت جيوش الكامل محمد -رحمه الله- تسيطر على شرق تركيا، إضافةً إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من جهة الشمال. أي أنه يسيطر على الشمال الغربي من العراق، وعلى الشمال الشرقي من سورية؛ لذا أصبح إخضاع إمارة ميافارقين بالقوة أصبح لازمًا.
ومن هنا سيَّر هولاكو جيشًا بقيادة ابنه أشموط لحصار ميافارقين؛ فضرب عليها حصارًا كاملاً، ووقف الكامل محمد وشعبه وقفة المجاهدين، واستبسلوا في المقاومة، وفي الوقت الذي أرسل فيه الكامل محمد يطلب النجدة من أمراء المسلمين، لم يُجِبه منهم أحد، بل كان منهم من يقاتل في صفوف هولاكو ضده.
وظلَّت المدينة مستبسلة مدةَ ثمانية عشر شهرًا حتى سقطت، فقتل السفَّاح أشموط كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميرًا، ولكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد -رحمه الله- حيًّا ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه هولاكو وهو في حصار مدينة حلب.
واستجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه!! وظلَّ به على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها.
وسقطت حلب بعد ذلك، بعد وعد بأمان زائف؛ فتح الأهالي على إثره أبواب المدينة لهولاكو، ولكنه أبادهم على بكرة أبيهم. وبينما كان جيش التتار يستعد للتوجه إلى حماة، جاء إلى هولاكو وفدٌ من أعيان حماة وكبرائها يقدِّمون له مفاتيح المدينة، ويسلمونها له دون قتال، وذلك برغبتهم وإرادتهم الذاتية، ودون طلب من هولاكو!! وقَبِل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم الأمان، ولكنه كان في هذه المرة أمانًا حقيقيًّا؛ وذلك ليشجِّع غيرهم على أن يحذوا حذوهم.
وجاء الدور على دمشق التي يحكمها الناصر يوسف الخائن، الذي أعلن الجهاد ضد التتار عندما طلب منه هولاكو أن يستسلم له استسلامًا كاملاً؛ فخشي على حياته، وأعلن الجهاد، ولكنها كانت دعوة زائفة من رجل اعتاد الخيانة، ولم يعتد حمل السيف. وقد انتهت تلك الدعوة الزائفة بالفرار عندما جاءت جيوش هولاكو، ووقع أهل دمشق في حيرة كبيرة، ماذا يفعلون؟!
وهنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يفعلوا مثلما فعل أهل (حماة)، فيأخذوا مفاتيح المدينة، ويسلموها إلى هولاكو، ثم يطلبوا الأمان منه، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين قرروا التحصُّن في قلعة دمشق، والدفاع حتى النهاية.
وصدق ظن هولاكو عندما أعطى الأمان الحقيقي لأهل حماة؛ فإن ذلك دفع غيرهم من أهل المدن الكبرى لأن يفعلوا مثلهم. وخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو، ويسلمه مفاتيح المدينة ومقاليد الحكم في دمشق.
في هذه الأثناء حدث أمر لم يكن في حسبان هولاكو في هذا التوقيت، لقد مات (منكوخان) زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار بذلك إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق؛ فلم يتردد هولاكو في أن يترك جيشه، ويسرع بالعودة إلى (قراقورم) عاصمة التتار للمشاركة في عملية اختيار خليفة منكوخان، وترك هولاكو على رأس جيشه أكبر قواده وأعظمهم (كتبغا نوين)، وهو كما ذكرنا قبل ذلك من التتار النصارى.
وأسرع هولاكو بالعودة، حتى إذا وصل إلى إقليم فارس جاءته الرسل من (قراقورم) بأنه قد تم اختيار أخيه (قوبيلاي) خاقانًا جديدًا للتتار. ومع أن الأمر كان صدمة كبيرة لأحلام هولاكو، وكان على خلاف توقعاته، بل وعلى خلاف قواعد الحكم التي وضعها جنكيزخان قبل ذلك، إلا أنه تقبل الأمر بهدوء، وآثر أن يمكث في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وقد رأى الخيرات العظيمة في هذه المناطق، لكنه لم يرجع مرة أخرى إلى الشام، بل ذهب إلى تبريز (في إيران حاليًا)، وجعلها مركزًا رئيسيًّا لإدارة كل هذه الأملاك الواسعة. وتبريز إضافةً إلى حصانتها وجوها المعتدل، فإنها تتوسط المساحات الهائلة التي دخلت تحت حكم هولاكو حتى الآن، فهو يحكم بدايةً من أقاليم خوارزم التي تضم كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، ومرورًا بإقليم فارس وأذربيجان، وانتهاءً بأرض العراق وتركيا والشام.
قرر القائد كتبغا أن يحتل فلسطين، فأرسل فرقة من جيشه، فاحتلت نابلس، ثم احتلت غزة، ولم تقترب الجيوش التترية من الإمارات الصليبية الأوربية المنتشرة في فلسطين، كما لم يقتربوا من إمارات الصليبيين في سورية ولبنان، وبذلك قُسِّمت فلسطين بين التتار والصليبيين.
وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكامله، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضًا سورية بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين!! وقد حدث كل ذلك في عامين فقط!!
ووصل التتار في فلسطين إلى غزة، وأصبحوا على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلو مترًا فقط من سيناء، وبات معلومًا للجميع أن الخطوة التالية المباشرة للتتار هي احتلال مصر!!
أمَّا عن الوضع في مصر؛ فقد كانت تحت حكم المماليك، وكانت تعيش فترة اضطرابات في الحكم؛ فقد قُتِلَ الملك المعز عز الدين أيبك، وقُتِلت بعده زوجته شجرة الدر، ثم تولَّى الحكم السلطان الطفل المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك، وتولَّى سيف الدين قطز الوصاية على السلطان الصغير.
أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسيِّ الحكم اضطرابات كثيرة في مصر، وكان أكثر الاضطرابات تأتي من قِبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وقد قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ وذلك ليلحقوا بزعمائهم.
وقطز -رحمه الله- وإن كان يدير الأمور فعليًّا في مصر، لكن الذي يجلس على الكرسيِّ سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يُضعِف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوِّي من عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلاً.
وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، واضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين؛ اتخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، واعتلاء قطز بنفسه عرش مصر.
حدث هذا الأمر في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657هـ/ 1259م، أي قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام. ومنذ أن صعد قطز -رحمه الله- إلى كرسيِّ الحكم وهو يُعِدُّ العُدَّة للقاء التتار.
قطز .. وخطوات التغيير
الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز -رحمه الله- هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، وقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه؛ فجمع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وكل هؤلاء من المحرِّكين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، وقال لهم في وضوح: "إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتَّى ذلك بغير مُلك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة مَن شئتم"[36] ؛ فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك.
أما الخطوة الثانية لقطز رحمه الله في إعداده للتتار فكانت خطوة في منتهى الروعة والحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جدًّا لقطز رحمه الله؛ لقد أصدر قرارًا بالعفو العام (الحقيقي) عن كل المماليك البحرية!!
أما الخطوة الثالثة له فكانت حرصه على الاستقرار (الخارجي) مع جيران مصر من المسلمين؛ كالناصر يوسف الأيوبي رغم خيانته، لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، ولم يكتفِ قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر.
وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تمامًا لقطز، وفضَّل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!!
وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) حسن بن عبد العزيز صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضًا قاطعًا، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!
ولكن إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش، فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟
الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثِّر كثيرًا في حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظِّم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: (الجهاد في سبيل الله)، وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية.
كان لزامًا على قطز رحمه الله أن يوجِّه اهتمامًا خاصًّا لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء والفداء للدين، والحميَّة للإسلام. وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهَّلتا نسبيًّا من مهمة قطز رحمه الله: أما القيمة الأولى التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين.
أما القيمة الثانية -بعد قيمة العلم والعلماء- التي كانت محفوظة في مصر، فهي قيمة الجهاد في سبيل الله؛ لقد كان المسلمون في مصر في تلك الآونة يؤمنون إيمانًا عميقًا بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش.
وبينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو وهي تحمل رسالة تقطر سمًّا، وتفيض تهديدًا ووعيدًا وإرهابًا، لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله ، جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتر، وقرأ قطز رحمه الله فإذا فيها ما يلي:
"باسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه، الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها، أنَّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حلَّ به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلِّموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب.
فأي أرض تأويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص؛ فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال!
فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع؛ لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن ردِّ السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون)، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة، وقد سلَّطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم علينا من سبيل؛ فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا ردَّ الجواب، قبل أن تضطرم الحرب نارها، وتوري شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًّا، ولا كتابًا ولا حرزًا؛ إذ أزَّتكم رماحنا أزًّا، وتُدْهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية؛ فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم، ومننَّا برسلنا عليكم"[37].
وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلانًا صريحًا بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولا بد أن يكون التسليم مذلاًّ، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق.
عقد قطز رحمه الله مجلسًا استشاريًّا أعلى، وجمع كبار القادة والأمراء والوزراء، وبدءوا فورًا في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، والخيارات محدودة جدًّا، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط.
أما قطز -رحمه الله- فكانت القضية في ذهنه واضحة تمام الوضوح، لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جدًّا من الفقه والفَهْم. فكيف يتصرف القائد الحكيم مع مثل هذا الموقف؟! كيف ينزع الخوف والرهبة من القلوب؟
لقد سلك قطز طريقي: (التربية بالقدوة)، فقال للأمراء: "أنا ألقي التتار بنفسي"[38].
أما الطريق الثاني فهو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها نعيش على الأرض، لقد قال لهم قطز في صراحة:
"يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجِّهٌ، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين (عن القتال) "[39].
ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول: يا أمراء المسلمين، مَن للإسلام إن لم نكن نحن[40].
ووقعت الكلمة في قلوب الأمراء، فضجوا جميعًا بالبكاء!! وقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، فقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن! وهكذا نجح قطز رحمه الله في خطوة هي من أصعب خطوات حياته، وهي في ذات الوقت من أعظم خطوات حياته؛ ولذلك فقد أراد قطز أن يفعل أمرًا يقطع به خط الرجعة تمامًا على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقى أمامهم غير الخيار العسكري فقط!!
ماذا قرر قطز؟!
لقد قرر قطز بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرسل الأربعة الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وأن يعلِّق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة؛ وذلك حتى يراها أكبر عدد من الشعب. وهو يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردَّ العنيف سيكون إعلانًا للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيرًا عن الأقوام الذين قابلوهم من قبلُ، وهذا قد يؤثِّر سلبًا في التتار، فيلقي في قلوبهم ولو شيئًا من الرعب أو التردد.
وبعد قتل الرسل، بدأ قطز رحمه الله في التجهيز السريع للجيش، فقد اقتربت جدًّا لحظة المواجهة.
والمشكلة الجديدة التي أمام قطز الآن هي (المشكلة الاقتصادية)!!
ومن جديد جمع قطز رحمه الله مجلسه الاستشاري، ودعا إليه -إلى جانب الأمراء والقادة- العلماء والفقهاء، وعلى رأسهم سلطان العلماء الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله، واقترح قطز رحمه الله أن تفرض على الناس ضرائب لدعم الجيش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية، ولا بد من وجود سند شرعي يبيح ذلك، وإلا صارت الضرائب مكوسًا، وفارض الضرائب بغير حق عقابه أليم عند الله ؛ روى الإمام أحمد وأبو داود -رحمهما الله- عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ"[41].
إلا أن الشيخ العزّ بن عبد السلام كان عنده تحفظ خطير على هذا القرار، فلم يوافق عليه إلا بشرطين، والشرطان عسيران جدًّا!! قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله:
إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم (أي العالم الإسلامي)، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم (أي فوق الزكاة) بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء. هذا هو الشرط الأول، أما الشرط الثاني فكان أصعب!! قال الشيخ العزُّ بن عبد السلام رحمه الله: وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات (أي يبيع الحكام والأمراء والوزراء ما يمتلكون)، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة؛ وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا!! [42].
فتوى في منتهى الجرأة!! وإن كانت هذه الفتوى عجيبة في جرأتها، فإن استجابة قطز رحمه الله كانت أعجب!!
لقد قَبِل قطز رحمه الله كلام الشيخ العز بن عبد السلام ببساطة!! وبدأ بنفسه، فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك!! فانصاع الجميع، وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية.
وجاء وقت إعداد الخطة، وقام قطز رحمه الله بإلقاء بيانه الذي يوضِّح فيه رأيه في الخطة العسكرية، وبمجرَّد أن ألقى برأيه، قام المجلس العسكري ولم يقعد!!
لقد أراد قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه لمقابلة جيش التتار في (فلسطين)!! واعترض أغلب الأمراء، لقد أراد الأمراء أن يبقى قطز في مصر ليدافع عنها، فمصر -في رأي الأمراء- هي مملكته، أما فلسطين فهي مملكة أخرى!! لقد نظر الأمراء إلى القضية نظرة قومية بحتة، بمعنى أنه لو لم يدخل التتار مصر فإننا نكون قد تجنَّبنا لقاءً دمويًّا هائلاً، أما إذا ذهبنا نحن إليهم فلا خيار حينئذٍ سوى المعركة.
وبدأ قطز رحمه الله يناقش الأمراء ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، واقتنع الأمراء برأي قطز، وهكذا ترجحت كفة الانتقال إلى فلسطين، واقتنع الحضور في المجلس العسكري الأعلى الذي عقده قطز رحمه الله برأيه الموفَّق، وبدأ قطز رحمه الله في إعداد الجيش وتجهيزه التجهيز المناسب لعبور سيناء وللقاء التتار.
وبدأ تجمُّع الجيش المسلم في منطقة الصالحية (بمحافظة الشرقية الآن)، ثم أعطى قطز رحمه الله إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين.
كان هذا التحرُّك في أوائل شهر شعبان سنة 658هـ، وهذا يوافق شهر يوليو من سنة 1260م، أي أن هذا التحرك كان في أشد شهور السنة حرًّا، والسير في الصحراء القاحلة الطويلة في سيناء، وليس في الطريق مدن آهلة اللهم إلا العريش، ومع ذلك فقد صبر الجيش المجاهد.
كان قطز رحمه الله يتحرك على تعبئة، بمعنى أنه يتحرك وقد رتَّب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجأه جيش التتار كان مستعدًّا.
وكان قطز رحمه الله قد وضع على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس القائد العسكري الفذ، ليكون أول من يصطدم بالتتار، فيحدث نصرًا -ولو جزئيًّا- مما سيرفع من معنويات المسلمين بالتأكيد.
وهكذا اجتاز ركن الدين بيبرس الحدود المصرية في 26 من يوليو سنة 1260م، ودخل حدود فلسطين المباركة، وتبعه قطز بعد ذلك في سيره، وحدث ما توقعه قطز رحمه الله، واكتشفت عيون التتار مقدمة الجيش الإسلامي بقيادة ركن الدين بيبرس، واعتقدت أن هذا هو جيش المسلمين كله، ونقلت الأخبار إلى حامية غزة التترية، وأسرعت الحامية التترية للقاء ركن الدين بيبرس، وحدث بينهما قتال سريع، هذا كله وجيش قطز الرئيسي ما زال يعبر الحدود الفلسطينية المصرية، ولكن -كما ذكرنا- كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية، وقائدها ركن الدين بيبرس قائد بارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبيًّا، والجيش التتري الرئيسي بقيادة كتبغا يربض في سهل البقاع في لبنان على مسافة ثلاثمائة كيلو متر تقريبًا من غزة؛ فتم اللقاء في غزة بمعزل عن الجيوش الرئيسية للمسلمين والتتار، وبفضل الله استطاعت مقدمة الجيش المسلم أن تنتصر في هذه الموقعة الصغيرة، وقُتِل بعض جنود الحامية التترية، وفرَّ الباقون في اتجاه الشمال لينقلوا الأخبار إلى كتبغا في لبنان.
اتجه الجيش المسلم بعد انتصار غزة إلى ناحية الشمال، وعسكر قطز رحمه الله في الحدائق المحيطة بحصن عكا في السهل الواقع في شرق عكا.
في هذه الأثناء كان كتبغا قد وصلته فلول جيش التتار الفارة من غزَّة ينقلون إليه تحركات الجيش المسلم، فغضب غضبًا شديدًا لهزيمة حاميته العسكرية في غزة، وتحرك في اتجاه الجنوب بين جبال لبنان حتى دخل فلسطين من شمالها الشرقي غرب مرتفعات الجولان، ثم عبر نهر الأردن، ووصل إلى الجليل الشرقي. واكتشفت الاستطلاعات الإسلامية المنتشرة في المنطقة تحركات كتبغا، ونقلت الأخبار بسرعة إلى قطز الذي كان قد غادر عكا في اتجاه الجنوب الشرقي؛ فأسرع قطز باجتياز مدينة الناصرة، وتعمق أكثر في الجنوب الشرقي حتى وصل إلى منطقة تُعرف بسهل عين جالوت، وهي تقع في الوسط تقريبًا بين مدينتي بيسان في الشمال ونابلس في الجنوب، وهي قريبة جدًّا من معسكر جنين الآن، وهي المنطقة التي ستدور فيها معركة من أهم المعارك في تاريخ الأرض. وسبحان الله! فإن الأيام قد دارت وحدثت موقعة أخرى شريفة على أرض جنين بين المجاهدين الفلسطينيين واليهود، وذلك في عام 2002م، وزاد شهداء المسلمين فيها على خمسمائة بعد أن صبروا في قتالهم صبرًا عجيبًا.
وجد قطز -رحمه الله- سهل عين جالوت منطقة مناسبة جدًّا للمعركة المرتقبة؛ فهو عبارة عن سهل واسع منبسط تحيط به التلال المتوسطة من كل جوانبه إلا الجانب الشمالي فهو مفتوح، كما تعلو هذه التلال الأشجار والأحراش، مما يوفِّر مخبأً مناسبًا جدًّا للجيش الإسلامي؛ فيسهل عمل الكمائن الكثيرة على جوانب السهل المنبسط.
ورتَّب قطز جيشه بسرعة؛ فوضع على ناحية السهل الشمالية مقدمة جيشه بقيادة ركن الدين بيبرس، وجعلها في مكان ظاهر حتى يغري جيش التتار بالقدوم إليها، بينما أخفى قطز رحمه الله بقية الجيش خلف التلال والأحراش.
موقعة عين جالوت
مرَّ جيش التتار غرب بيسان، وانحدر جنوبًا في اتجاه عين جالوت حيث كانت القوات الإسلامية قد أخذت مواقعها، ورتبت صفوفها، ووقفت في ثبات تنتظر الجيش التتري.
كان هذا في يوم 24 من رمضان سنة 658هـ/ 1260م، وهو اليوم السابق مباشرة للموقعة الرهيبة: عين جالوت. وعلى ذلك انتهى يوم الرابع والعشرين من رمضان، وقضى المسلمون الليل في القيام والابتهال والدعاء والرجاء.
وحان وقت الفجر، وصلى المسلمون الفجر في خشوع، ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات وأشرقت الشمس؛ هذا يوم الجمعة الخامس والعشرون من رمضان سنة 658هـ/ 1260م، وبشروق الشمس أضاءت الدنيا، ورأى المسلمون من بعيد جيش التتار!!
أتى الجيش التتري المهول من اتجاه الشمال، وبدأ في الاقتراب من سهل عين جالوت، وعلى أبواب السهل وقف الجيش التتري في عدده الرهيب وعُدَّته القوية، ولم يكن بالسهل أحد من المسلمين؛ فقد كانوا يقفون جميعًا خلف التلال.
لكن -كما أشرنا من قبل- كانت مقدمة جيش المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس لا تخفي نفسها؛ وذلك حتى يعتقد جواسيس التتار أن هذه المقدمة هي كل الجيش، ومع ذلك فعند قدوم جيش التتار كانت هذه المقدمة مختفية هي الأخرى، ثم أشار لها قطز -رحمه الله- أن تنزل من فوق التلال للوقوف على باب السهل لقتال الجيش التتري.
وبدأت القوات الإسلامية تنساب من فوق التلال إلى داخل سهل عين جالوت، ثم تتجه إلى شمال السهل للاقتراب من جيش التتار، ولم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، إنما نزلت على مراحل، وفي صورة عجيبة؛ تتابعت الكتائب الإسلامية بألوانها الرائعة المختلفة، كل كتيبة بلون؛ فبُهِت كتبغا وقادته وجنودهم {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
لقد كان كتبغا معتادًا أن يرى جنود المسلمين وراء الحصون والقلاع يرتجفون ويرتعبون، أو يراهم وهم يتسارعون إلى الهروب فزعًا من جيش التتار، أو يراهم وهم يسلِّمون رقابهم للذبح الذليل بسيوف التتار!! كان كتبغا معتادًا على رؤية المسلمين في إحدى هذه الصور المهينة، أما أن يراهم في هذه الهيئة المهيبة العزيزة، فهذا ما لم يحسب له حسابًا أبدًا!!
كانت كل هذه الفرق هي مقدمة جيش المسلمين فقط، وهي أقل بكثير من جيش التتار الرهيب؛ فقد احتفظ قطز -رحمه الله- بقواته الرئيسية خلف التلال، وقد قرر ألا تشترك في المعركة إلا بعد أن تُنهَك قوات التتار.
وبعد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس بدأت فرقة الموسيقى العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تدق طبولها، وتنفخ في أبواقها، وتضرب صنوجها النحاسية، لقد كانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر عن طريق هذه الدقات المتفق عليها، والتي لا يعرفها الأعداء.
ونظر كتبغا إلى مقدمة القوات الإسلامية، وكان لا يدرك شيئًا عن القوات الرئيسية المختبئة خلف التلال، فوجد أن قوات المقدمة الظاهرة أمامه قليلة جدًّا بالنسبة لقواته، ومع ذلك فهي في هيئة حسنة ومنظر مهيب، فأراد كتبغا أن يحسم المعركة لصالحه من أول لحظاتها؛ لذلك قرر أن يدخل بكامل جيشه وقواته لحرب مقدمة المسلمين.
وهذا تمامًا ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله، وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته، وانهمرت جموع التتار الرهيبة وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين. أمَّا القائد المحنك ركن الدين بيبرس فقد كان يقف في رباطة جأش عجيبة، ومعه الأبطال المسلمون يقفون في ثبات، وقد ألقى الله عليهم سكينة واطمئنانًا، وكأنهم لا يرون جحافل التتار، حتى إذا اقتربت جموع التتار أعطى بيبرس إشارة البدء لرجاله، فانطلقوا في شجاعة نادرة في اتجاه جيش التتار.
وارتطم الجيشان ارتطامًا مروعًا! كانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وكان كثير من أمراء هذه المقدمة -بما فيهم ركن الدين بيبرس- من أولئك الذين شاركوا في موقعتي المنصورة وفارسكور ضد الحملة الصليبية السابقة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك منذ عشر سنوات في سنة 648هـ/ 1250م؛ وبذلك يكون هؤلاء الأمراء من أصحاب الخبرة العسكرية الفائقة، ومن أعلم القادة بطرق المناورة وأساليب القتال وخطط الحرب.
وثبتت القوات الإسلامية ثباتًا رائعًا مع قلة عددها؛ مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري، كل هذا وقطز -رحمه الله- يرقب الموقف من بعيد، ويصبِّر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة.
كان هذا هو الجزء الأول من الخطة الإسلامية: استنزاف القوات التترية في حرب متعبة، والتأثير في نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم.
ثم جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة، ودقت الطبول دقات معينة لتصل بالأوامر من قطز إلى بيبرس؛ ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني من الخطة. وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، وحبذا لو سُحِب الجيش بكامله؛ بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيدًا لحصارها.
وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ هذا الجزء من الخطة على صعوبته، فكان عليه أن يُظهِر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعًا جدًّا حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئًا جدًّا فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع. وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة تقدم جيش التتار في مكانه. هذه الخطة هي نفس خطة القوات الإسلامية في موقعة نهاوند الشهيرة ضد القوات الفارسية وذلك في سنة 19هـ، وهنا في عين جالوت يستفيد قطز رحمه الله من تجارب المسلمين السابقة، ويطبِّق خطة نَهَاوَنْد بحذافيرها.
وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وبدأ التتار يدخلون السهل وهم يضغطون على المسلمين، وفي النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت، وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت؛ وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك أيًّا من قواته الاحتياطية خارج السهل، بل أخذ معه كل جنوده!!
وهذا تدبير رب العالمين I، الذي يخرج عن القياسات العادية للبشر، ويدفع أشخاصًا بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وبذلك نجح الجزء الثاني من الخطة الإسلامية نجاحًا باهرًا، وبدأ تنفيذ الجزء الثالث من الخطة، وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق، ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة، نزلت من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت؛ وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم.
واكتشف كتبغا الخُطَّة الإسلامية بعد فوات الأوان، وحُصِر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ، لا مجال للهرب، ولا مجال للمناورات؛ السهل منبسط والمساحات مكشوفة، وظهر تفوق الميمنة التترية، فقد بدأت تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وأخذ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفون حول الجيش الإسلامي، وتتعادل بذلك الكفتان، وقد ترجح كفة التتار، ويصبح إغلاق السهل خطرًا على المسلمين.
وشاهد قطز -رحمه الله- المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بقوات احتياطية، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، ولعلَّ بعضهم أصبح يشك في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه إنه لا يهزم.
هنا لم يجد قطز رحمه الله إلا حلاًّ واحدًا لا بديل له، لا بد أن ينزل بنفسه -رحمه الله- إلى ساحة القتال، لقد ألقى بخوذته على الأرض؛ تعبيرًا عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة التي قلبت الموازين في أرض المعركة، لقد صرخ قطز -رحمه الله- بأعلى صوته: واإسلاماه، واإسلاماه!! وألقى بنفسه -رحمه الله- وسط الأمواج المتلاطمة من البشر.
وفوجئ الجنود بوجود القائد الملك المظفر قطز رحمه الله في وسطهم، يعاني مما يعانون، ويشعر بما يشعرون، ويقاتل كما يقاتلون؛ إنها ليست هجمة على ذواتهم، إنها هجمة على الإسلام. واشتعل القتال في سهل عين جالوت، وعلا صوت تكبير المجاهدين على كل شيء، ولجأ المسلمون بصدقٍ إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من شهر رمضان.
وقاتل قطز رحمه الله قتالاً عجيبًا!! ثم صوَّب أحد التتر سهمه نحو قطز رحمه الله فأخطأه، ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجَّل قطز رحمه الله على الأرض، وقاتل ماشيًا لا خيل له! وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته رحمه الله. وبدأت الكفة -بفضل الله- تميل من جديد لصالح المسلمين، وارتدَّ الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار.. {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26].
مصرع الطاغية
وتقدم أمير من أمراء المماليك المهرة في القتال وهو جمال الدين آقوش الشمس، وهو من مماليك الناصر يوسف الأيوبي، وقد ترك الناصر لما رأى تخاذله وانضم إلى جيش قطز، وأبلى بلاءً حسنًا في القتال، واخترق الصفوف التترية في حملة صادقة موفَّقة حتى وصل في اختراقه إلى (كتبغا) قائد التتار!! ورفع البطل المسلم سيفه، وأهوى بكل قوته على رقبة الطاغية المتكبر كتبغا، وطارت الرأس المتكبرة في أرض القتال، وسقط زعيم التتار، وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار.. {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]
وتغير سيناريو القتال عند التتار، فما أصبح لهم من هَمٍّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقًا في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب، وانطلق المسلمون خلف التتار، يقتلون فريقًا، ويأسرون فريقًا.
وركز التتار جهدهم على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي، واستطاعوا بعد عناءٍ شديد أن يُحْدِثوا ثغرة في الصف المسلم الواقف على باب المدخل، وانطلق التتار في سرعة عجيبة يُوَلُّون الأدبار، وخرجت أعداد كبيرة يُسرِعون الخُطا في اتجاه الشمال لعلَّ هناك مهربًا.
ووصل التتار الفارون إلى بيسان (حوالي عشرين كيلو مترًا إلى الشمال الشرقي من عين جالوت)، ووجد التتار أن المسلمين جادُّون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد؛ لتدور موقعة أخرى عند بيسان أجمع المؤرِّخون على أنها أصعب من الأولى، وقاتل التتار قتالاً رهيبًا، وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديدًا.
وانطلق قطز يحفِّز الناس، ويدعوهم للثبات، ثم أطلق صيحته الخالدة: واإسلاماه، واإسلاماه، واإسلاماه!! قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرُّع: "يا الله! انصر عبدك قطز على التتار"[43]. وما إن انتهى من دعائه وطلبه -رحمه الله- إلا وخارت قوى التتار تمامًا.
نهاية الأسطورة
وبدأ الجنود الذين روَّعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان، قضى المسلمون تمامًا على أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار، وجاءت اللحظة التي ينتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو تزيد، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4، 5].
لقد أُبِيد جيش التتار بكامله!! لم يبق على قيد الحياة من الجيش أحد بالمرة! لقد فَنِي الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية؛ فني الجيش الذي سفك دماء الملايين وخرَّب مئات المدن، وعاث في الأرض فسادًا. وانتصر الجيش الإسلامي العظيم!!
لقد نزل البطل المجاهد العظيم التَّقيُّ الورع، نزل من على فرسه، ومرَّغ وجهه في الأرض، يسجد شكرًا لله !!
لم تنته مهمة الملك المظفَّر بعدُ؛ ما زال هناك تتار في بلاد الشام، وما زال هناك تتار في دمشق وحمص وحلب وغيرها من المدن الشامية، وما زال هناك تتار في العراق وتركيا وفارس وغيرها، ودمشق هي أولى المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، وهي تقع على مسافة مائة وخمسين كيلو مترًا تقريبًا من عين جالوت إلى الشمال الشرقي منها. لا بد من تطهير هذه المدينة الإسلامية العظيمة من دنس التتار؛ فأرسل رسالة عظيمة تحمل بشريات النصر المجيد.
وصل الكتاب يحمل البشارة إلى أهل دمشق، واستقبل المسلمون الخبر بفرح لا يوصف؛ فقد يئس الكثير من إمكانية هزيمة التتار، فلما سمعوا بأخبار الانتصار الباهر ارتفعت هممهم إلى السماء، ورأوا عمالقة التتار أقزامًا، وقام الشعب في دمشق بثورة عارمة على جيش المغول، وأمسكوا بجنود التتار وفتكوا بهم.. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [الذاريات: 45].
لقد سقطت هيبة التتار، وتنفَّس المسلمون الصعداء بعد قهرٍ وبطش استمر أكثر من ستة أشهر، وانتهى المسلمون من أمر الحامية التترية بسرعة؛ فمنهم من قُتل، ومنهم من أسر، ومنهم من فرَّ، واتجه المسلمون بعد ذلك للقصاص من النصارى الذين تطاولوا على أهل الإسلام في أثناء سيطرة التتار على دمشق.
وبينما هم كذلك -وفي اليوم الثلاثين من رمضان سنة 658هـ/ 1260م- وصل البطل العظيم الملك المظفر قطز رحمه الله إلى دمشق، بعد خمسة أيام من يوم عين جالوت؛ واستقبله الناس استقبال الفاتحين، وعلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر.
لم يضيِّع قطز رحمه الله وقتًا بل أرسل مقدمة جيشه بقيادة بيبرس تتبع الفارين من التتار، وتُطهِّر المدن الشامية الأخرى من الحاميات التترية، فوصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففرُّوا مذعورين، وحرَّر المسلمون أسراهم الذين كانوا في قبضة التتار، وانطلقوا خلف الحاميات التترية الهاربة، فقتلوا أكثرهم، وأسروا الباقين، ولم يفلت منهم إلا الشريد.
وطَهَّر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون بضعة أسابيع، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، نسأل الله لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرُّر والعزة.
وأعلن قطز رحمه الله توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفُرقة، وذلك منذ وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله في سنة 648هـ/ 1250م، وخُطِب لقطز رحمه الله على المنابر في كل المدن المصرية والفلسطينية والشامية، حتى خطب له في أعالي بلاد الشام والمدن حول نهر الفرات.
ومع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد إلا أن آثارها كانت من القوة بحيث لا تتخيل، وكانت من الكثرة بحيث لا تُحصى؛ فمن آثارها:
الأثر الأول: عاد المسلمون إلى الله أثناء التحضير، وأثناء الإعداد لهذا اللقاء، وأثناء المعركة ذاتها، وبعد المعركة، ولمدة طويلة من الزمان.
الأثر الثاني: قتل المسلمون في عين جالوت الهزيمة النفسيَّة البشعة التي كانوا يعانون منها.
الأثر الثالث: عادت الهيبة للأمة الإسلامية بعد غياب دام أكثر من ستين سنة.
الأثر الرابع: فنيت قوة التتار العسكرية في منطقة الشام وتركيا وفلسطين، لم يُسمع عن التتار في هذه المنطقة لعشرات السنين بعد ذلك؛ اختفى القهر والظلم، واختفى البطش والتشريد، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأرضهم وأعراضهم، ولم يروِّع الناسَ أحدٌ في هذه المناطق إلا بعد عين جالوت بأكثر من مائةٍ وأربعين عامًا، عندما دخل التترى السفَّاح تيمورلنك بلاد الشام، فاجتاح حلب ودمشق سنة 804هـ/ 1402م بعد أن اجتاح بلاد العالم الإسلامي الشرقية.
الأثر الخامس: عادت الوَحْدة العظيمة بين مصر والشام، وكوَّنا معًا التحالف الاستراتيجي الصُّلب الذي يمثل حاجز صدٍّ رائع ضد الهجمات الأجنبية.
الأثر السادس: وهو من أعجب الآثار، وأعظمها!! فقد رأى كثير من التتار دين الإسلام عن قرب، وقرءوا عن أصوله وقواعده وقوانينه، وعلموا آدابه وفضائله، ورأوا أخلاقه ومبادئه، فأعجبوا به إعجابًا شديدًا، وخاصَّةً أنهم -كعامة البشر- يعانون من فراغ ديني هائل، فليس هناك تشريع يقترب أو يحاول الاقتراب من دين الإسلام، ومن اقترب منه وبحث فيه لا بد أن يرتبط به، إن كان صادقًا في بحثه، وطالبًا للحقيقة فعلاً.
لقد بدأ بعض التتار يؤمنون بدين الإسلام، ثم شاء الله أن يدخل الإيمان في قلب أحد زعماء القبيلة الذهبية -أحد الفروع الكبيرة جدًّا في قبائل التتار-، وهذا الزعيم هو ابن عم هولاكو مباشرة، وهو أخو (باتو) القائد التتري المشهور، وتسمَّى هذا الزعيم باسم (بركة)، وكان إسلامه في سنة 650هـ/ 1252م. ثم تولى (بركة) زعامة القبيلة الذهبية سنة 652هـ/ 1254م، وأصبح اسمه (بركة خان)، وكانت هذه القبيلة شبه مستقلة عن دولة التتار، وتحكم المنطقة التي تقع شمال بحر قزوين، والمعروفة في الكتب الإسلامية القديمة باسم (بلاد القبجاق) وهي تقع الآن في روسيا، وبإسلام هذا الزعيم دخلت أعداد كبيرة من قبيلته في الإسلام.
لقد كانت صفحات دامية في تاريخ الأمة الإسلامية، دفعت فيها ثمن الابتعاد عن تطبيق شرع الله ، ولكنها من خلال تلك المحنة عرفت سبيل النصر، وسلكت سبيل الرُّشد مرَّة أخرى.
كان القرن السابع الهجري مسرحا لظهور قوة عالمية ساحقة اسمها التتار بقيادة قائد محنك اسمه جينكيز خان الذي غزا كل مناطق اسيا الوسطى الى ان وصل
الى مشارف الصين جنوبا وغربا استمرت نجاحات جيشه في اسقاط الدويلات الاسلامية التي كانت تحت امارة الخلافة العباسية
في سنة هـ الموافقم قام القائد التتري "هولاكو" بالهجوم على عاصمة الخلافة العباسية بغداد ونجح في اسقاطها بعد حصار استمر لاكثر من يوما ،حيث قام باحراق المدينة وتخريب بناها وقتل علمائها وحكمائها والانتهاء بقتل الخليفة المعتصم بطريقة اقل ما يقال عنها شنيعة حيث مات رفسا تحت الاقدام
كان لسقوط بغداد صدى بالغ في بقاع العالم وخاصة العالم الاسلامي فمن جهة انتاب القائد هولاكو الغرور فسيطرته على العالم ونيته التوسع غربا الى الشام ومصر وكل معاقل المسلمين ومن جهة اخرى عرف امراء الدويلات الاسلامية ان سبب ضعفهم هو ضعف امرائهم فاخذو في التوحج من جديد لصد العدو الموحد وكان للمماليك في مصر الدور البالغ في جمع شمل المسلمين
وكانت موقعه عين جالوت بمثابة الامتحان الكبير الذي نجح فيه المسلمون لاول مرة اسقاط خوفهم ورد الاعتبار لانفسهم بعدما ذاقو من الذل على يد التتار على القائد المملوكي السلطان قطز
والحديث طويل وطويل عن تلك الحقبة التاريخية
لم يترك لنا الأستاذ عبد الرحمن ابراهيم محمد العمايره أي مجال للإضافة بإجابته الكاملة
على يد قطز هزم التتار فى موقعة عين جالوت التى سميت على سهل عين جالوت فى فلسطين - وسقوط بغداد يوم 9 صفر 656 هـ المُوافق فيه 10 شُباط (فبراير) 1258م، بتكليفٍ من الخاقان الأكبر مونكو خان الذي طلب من أخيه هولاكو استكمال فُتُوحات المغول في جنوب غرب آسيا التي كان قد بدأها جدهما جنكيز خان،
وهل يخفى القمر قطز بقيادة جيوش المسلمين في معركة عين جالوت والذي اعاد بها هيبة المسلمين انذاك
شكرا علي الدعوة الكريمة
أتفق مع إجابة الأساتذة من قبل فيد أحسنوااااااااااا
شكرًا للدعوة الكريمة
أتفق مع إجابات الأساتذة الكرام
بدا ظهور غزو التتاتر سنة ه و سقطت بغداد في ه و قتل هولاكو اخر خليفة عباسي " المستعصم بالله" و هزم التتار في مدينة غزة سنة ه على يد قطز
اتفق مع اجابات الخبراء شكرا لدعوتكم